الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلم يحظ كتاب على وجه الأرض بالعناية والتوثيق، والحفظ والتدقيق، بمثل ما حظي به القرآن المجيد، ولا قريبا منه! وذلك منذ أنزل على قلب النبي الأمين صلى الله عليه وسلم إلى يوم الناس هذا، وهذا ما يقر به الباحث المنصف من أي ملة كان، ولا يمكن لباحث يحترم عقله ويراعي الأصول العلمية في بحثه إلا أن يخلص إلى هذه النتيجة: أن هذا القرآن محفوظ كما نطق به النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا من تحقيق الوعد الرباني: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ {الحجر:9}.
جاء في (بحث عن القرآن الكريم) منشور على موقع وزارة الأوقاف السعودية: أنزل الله تعالى كتابه القرآن ليكون الكتاب المهيمن، والرسالة الخاتمة، والشريعة الباقية، مما يتطلب رعايته عن عبث العابثين، وتحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وقد اتفق له ذلك منذ اللحظة الأولى لنزوله وحتى يومنا هذا، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، لا زيادة فيه ولا نقص، وقد ورد إلينا متواترا بنقل الكافة [الجمع الكبير من الناس الذين يستحيل تواطؤهم على الكذب] التي لا تقع تحت عد ولا حصر عن مثلها، حفظا وكتابة، ولم يختلف في عصر من العصور في سورة، ولا آية، ولا في كلمة، بل كثير من هؤلاء النقلة لا يحسن العربية لكنه يقرأ القرآن كما أنزل، وقد ضمن الله تعالى لكتابه السلامة من التحريف، كما في قوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} وقوله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} وهذا يقتضي حفظ عينه وهيئته التي نزل عليها، وقد أقر بهذا كل من بحث في أمر القرآن من المسلمين وغيرهم، وللحفظ وجوه عدة ووسائل متنوعة:
أولا: حفظ القرآن في عهد النبوة: وتم ذلك بوسائل متنوعة منها:
1ـ الطريقة التي كان ينزل بها الوحي ...
2ـ مدارسة الملك النبي القرآن ...
3ـ كتابة الوحي ومقابلته ...
4ـ قصر الكتابة على القرآن ...
5ـ الحض على تعلم القرآن وتعليمه ...
6ـ قوة الحافظة التي عند العرب ...
ثانيًا: حفظ القرآن في عهد الصحابة رضي الله عنهم:
تعاهد الصحابة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم كتاب ربهم وديوان شريعتهم بالحفظ والعناية، وتجلى ذلك عبر حادثتين عظيمتين:
الأولى: في عهد الخليفة الأول أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ حين كثر موت حفظة القرآن بسبب الحروب، فخشي هو ونفر من كبار الصحابة ذهاب القرآن بموت حفظته، فأمر بجمع القرآن وذلك بجمع كل ما كتب عليه من الأخشاب والجلود ونحوها من وسائل الحفظ آنذاك، وكذلك ما كان محفوظا في صدور الرجال، وتم جمع القرآن جميعه مكتوبا في مكان واحد يشرف عليه الخليفة وخلفاؤه من بعده.
الثانية: في عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه حيث كان القرآن ـ إلى ذلك الحين ـ يقرأ على لغات العرب توسعة من الله لهم، فلما أدى هذا الاختلاف في اللغات إلى التنازع والاختلاف بين المسلمين جمع الخليفة المسلمين على لغة واحدة هي لغة قريش أم قبائل العرب، ونسخ من ذلك عدة مصاحف عمّمها على الأقاليم والأمصار.
والذي يعلم علم اليقين، ويعلمه كل باحث منصف أن كتابا غير القرآن لم يحظ بالعناية التي أحيط بها ولم يصل غيره بالتواتر كما وصل، فجاء ـ كما قال شفالي ـ: "أكمل وأدق مما يتوقعه أي إنسان". ولا غرو فهو كتاب الله الذي قال فيه: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} . وقد ظل القرآن محفوظا في الصدور حتى الساعة، وإلى قيام الساعة ... اهـ. ثم ذكر شهادات بعض الغربيين وغير المسلمين على ذلك.
وقد سبق لنا بيان أن تواتر القرآن الكريم يتميز عن غيره من أنواع التواتر بأنه تواتر باللفظ وكيفية الأداء والنطق بالكلمة والحرف على الهيئة المروية، وراجع في ذلك الفتوى رقم: 21627. وتجد فيها معنى التواتر وأنه يفيد العلم اليقيني؛ لأنه لا يكون إلا بنقل جمع عن جمع يستحيل عادة تواطؤهم على الكذب، وبالتالي فلا مجال للسؤال عن الإسناد!
وأما التسوية بين القرآن والإنجيل من حيث الإسناد والنقل والثبوت، فهذا لم يدعه علماء النصارى أنفسهم؛ لتهافته وظهور بطلانه، فإن الأناجيل الحالية لم تكتب في حياة المسيح، ولا في قرنه، ولا القرن الذي يليه، ولقد ذكر بعض المؤرخين أنه لم توجد عبارة تشير إلى وجود أناجيل متى ومرقي ولوقا ويوحنا قبل آخر القرن الثالث. ولا يعرف شيء عن حال كاتبيه ولا مترجميه من لغته الأصلية إلى اللغات الأخرى. هذا مع الاختلاف الكبير والتناقض بين نسخه!!! فكيف يتوهم عاقل تسوية هذا مع القرآن الذي سبق أن أشرنا إلى حفظه لفظاً ورسماً وأداءً ؟! ولعل السائل يحتاج إلى مدارسة علوم القرآن ليقف على حقيقة ثبوته وحفظه، وعلى الكتب المتعلقة بدراسة النصرانية ليقف على حقيقة فقد الإنجيل المنزل على عيسى وتحريف الأناجيل المتداولة بين النصارى، ويمكن الرجوع في ذلك إلى كتاب سهل وموثق، ككتاب (دراسات في الأديان اليهودية والنصرانية) للدكتور سعود الخلف. وراجع للفائدة الفتويين التالية أرقامهما: 29326، 162265.
وعلى أية حال، فالذي نظنه بالسائل أن ما يعانيه ليس عن شبهة بقدر ما هو من أثر الوسوسة! وإذا كان الأمر كذلك فعليه أن يعرض عن التفكير في ذلك، ويبدأ في طلب العلم الذي يزيل آثار الوساوس، ويمحو ظلمات الشبهات، ونسأل الله تعالى أن يوفقه لأرشد أمره، وأن يقيه شر نفسه، وأن يشرح صدره للحق الذي يرضيه.
والله أعلم.