الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فهذا التحليل غير صحيح بالمرة، وفتوى الشخص المذكور باطلة مصادمة لنصوص الوحي الصحيحة الثابتة عن المعصوم صلى الله عليه وسلم، فقد صام عاشوراء وأمر بصيامه، جاء في حديث ابن عباس المتفق عليه، قال: قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء، فقال: ما هذا؟ قالوا: هذا يوم صالح، هذا يوم نجى الله بني إسرائيل من عدوهم، فصامه موسى. قال: فأنا أحق بموسى منكم، فصامه، وأمر بصيامه.
وتكذيب هذا المكذب لهذا الحديث بُني على استشكالات أشكلت عليه، حيث لم يفهم معناه بشكل صحيح، فحاول رده وإنكاره، وسنجيب على ما أورد من شبهات فيما يلي:
1- قوله إن الحديث "موضوع ولا أصل له": هذا كلام مرسل لا يستند إلى المقاييس الصحيحة التى وضعها أهل الحديث للتصحيح والتضعيف والوضع، وهو مجانب للصواب بالكلية، فالحديث المشار إليه مخرج في أصح كتابين أجمعت الأمة على صحتهما بعد كتاب الله -عز وجل-، وهما صحيح البخاري وصحيح مسلم، فتكذيبه للحديث معارض باتفاق الأمة قبله على تصحيح الحديث. ويصدق عليه قول الشاعر:
وكم من عائب قولا صحيحا وآفته من الفهم السقيم.
2- أما قوله: "والأدلة: أن النبي كان يجهل أنه عيد عند اليهود لأن الله نجى موسى في ذلك اليوم"... إلخ، فهذا الدليل لا يستقيم لرد الحديث؛ إذ إن النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يعلم إلا ما أوحي إليه به من عند الله، وحيث لم يوح إليه بشيء في هذا الأمر فهو لا يعلمه، ولذلك سأل عن أشياء كثيرة لم يكن يعلمها، كما تضافرت بذلك نصوص السنة، ولا يعد ذلك قدحًا فيه ولا في رسالته.
3- قوله: "وصيام النبي لليوم هذا مع اليهود غير معقول أيضا؛ لأنه بذلك يكون تابعًا لليهود، والأصل أن يكون اليهود تبعًا للنبي -عليه الصلاة والسلام-" فالجواب عنه: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يكن تابعًا لليهود في صيام عاشوراء، بل كان يصومه قبل ذلك، فعَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - قَالَتْ: كَانَتْ قُرَيْشٌ تَصُومُ عَاشُورَاءَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَصُومُهُ، فَلَمَّا هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ صَامَهُ، وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ. رواه مسلم.
وجاء في فتح الباري لابن حجر: واستشكل رجوعه إليهم في ذلك! وأجاب المازري: باحتمال أن يكون أوحي إليه بصدقهم، أو تواتر عنده الخبر بذلك, زاد عياض: أو أخبره به من أسلم منهم كابن سلام، ثم قال: ليس في الخبر أنه ابتدأ الأمر بصيامه، بل في حديث عائشة التصريح بأنه كان يصومه قبل ذلك، فغاية ما في القصة أنه لم يحدث له بقول اليهود تجديد حكم، وإنما هي صفة حال، وجواب سؤال، ولم تختلف الروايات عن ابن عباس في ذلك، ولا مخالفة بينه وبين حديث عائشة أن أهل الجاهلية كانوا يصومونه كما تقدم, إذ لا مانع من توارد الفريقين على صيامه مع اختلاف السبب في ذلك؛ قال القرطبي: لعل قريشا كانوا يستندون في صومه إلى شرع من مضى كإبراهيم, وصوم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحتمل أن يكون بحكم الموافقة لهم كما في الحج، أو أذن الله له في صيامه على أنه فعل خير, فلما هاجر ووجد اليهود يصومونه وسألهم، وصامه وأمر بصيامه احتمل ذلك أن يكون ذلك استئلافا لليهود كما استألفهم باستقبال قبلتهم، ويحتمل غير ذلك. وعلى كل حال؛ فلم يصمه اقتداء بهم؛ فإنه كان يصومه قبل ذلك. اهـ.
4- قوله: "في آخر الرواية: يذكر النبي أنه سيصوم التاسع العام القادم" .. إلخ، فالجواب عنه: أنه لا تعارض بين أول الحديث وآخره، إذ المقصود أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يصوم يوم عاشوراء - كما سبق - ووجد اليهود يصومونه، وسألهم عن سبب ذلك، ثم صامه وأمر بصيامه، ثم أحب في آخر عمره أن يخالفهم، وليس كما توهم هو من أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أراد مخالفة اليهود مباشرة بعد سؤاله لهم! وقد جاء في كشف المشكل من حديث الصحيحين: اعلم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين قدم المدينة رأى اليهود يصومون يوم عاشوراء، فصامه وأمر بصيامه, فلما نزلت فريضة رمضان لم يأمرهم بغيره, فبقي ذلك اليوم يتطوع بصومه, فأراد مخالفة اليهود في آخر عمره فمات -صلى الله عليه وسلم-. اهـ.
وراجع لمزيد الفائدة الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 45462، 32561، 47081.
والله أعلم.