الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالحسد المنهي عنه هو: تمني زوال النعمة عن المنعم عليه -كما عرفه أهل العلم- وهذا مذموم، وما ذكر في حديث: "لا حسد إلا في اثنتين..." يعني: الغبطة، والحرص عليها يسمى: منافسة، وليست من الحسد، وإنما أطلق عليها الحسد مجازًا؛ قال ابن حجر -رحمه الله- في فتح الباري: وأما الحسد المذكور في الحديث فهو الغبطة، وأطلق الحسد عليها مجازا، وهي: أن يتمنى أن يكون له مثل ما لغيره من غير أن يزول عنه، والحرص على هذا يسمى: منافسة، فكأنه قال في الحديث: لا غبطة أعظم أو أفضل من الغبطة في هذين الأمرين. انتهى.
ثم إن من أهل العلم من قصر المنافسة على الفضائل فقط، ومنهم من أدخل في المنافسةِ المنافسةَ على الطاعات، والمعاصي، والجائزات؛ فقد قال الماوردي في أدب الدنيا والدين: وَحَقِيقَةُ الْحَسَدِ: شِدَّةُ الْأَسَى عَلَى الْخَيْرَاتِ، تَكُونُ لِلنَّاسِ الْأَفَاضِلِ، وَهُوَ غَيْرُ الْمُنَافَسَةِ، وَرُبَّمَا غَلِطَ قَوْمٌ فَظَنُّوا أَنَّ الْمُنَافَسَةَ فِي الْخَيْرِ هِيَ الْحَسَدُ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ظَنُّوا؛ لِأَنَّ الْمُنَافَسَةَ طَلَبُ التَّشَبُّهِ بِالْأَفَاضِلِ مِنْ غَيْرِ إدْخَالِ ضَرَرٍ عَلَيْهِمْ.
وَالْحَسَدُ مَصْرُوفٌ إلَى الضَّرَرِ؛ لِأَنَّ غَايَتَهُ أَنْ يَعْدَمَ الْأَفَاضِلُ فَضْلَهُمْ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَصِيرَ الْفَضْلُ لَهُ، فَهَذَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُنَافَسَةِ وَالْحَسَدِ. فَالْمُنَافَسَةُ إذًا فَضِيلَةٌ؛ لِأَنَّهَا دَاعِيَةٌ إلَى اكْتِسَابِ الْفَضَائِلِ، وَالِاقْتِدَاءِ بِأَخْيَارِ الْأَفَاضِلِ. انتهى.
وجاء في الموسوعة الفقهية الكويتية في تعريف الغبطة: أَنْ يَتَمَنَّى أَنْ يَكُونَ لَهُ مِثْل مَا لِغَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَزُول عَنْهُ، وَالْحِرْصُ عَلَى هَذَا يُسَمَّى مُنَافَسَةً، فَإِنْ كَانَ فِي الطَّاعَةِ فَهُوَ مَحْمُودٌ، وَإِنْ كَانَ فِي الْمَعْصِيَةِ فَهُوَ مَذْمُومٌ، وَإِنْ كَانَ فِي الْجَائِزَاتِ فَهُوَ مُبَاحٌ. انتهى.
فعلم مما سبق: أن تمني شراء البيت والسيارة من فلان إذا كان على وجه إزالة النعمة عنه فهو حسد، وإذا كان مجرد الرغبة في الحصول عليهما لإعجابك بهما فليس من الحسد، ثم قد يكون ذلك من المنافسة على المباحات الدنيوية على رأي من قسم المنافسة إلى ثلاثة أقسام، وقد لا يكون ذلك من المنافسة على رأي من قصر المنافسة على الفضائل.
وأما حديث: "لا تنافس بينكم إلا في اثنتين ..." وقد جاء بلفظ: "لا حسد إلا في اثنتين ...": فلا يدل هذا الحديث على جواز منافسة صاحب المال على المال، وإنما الحث على المنافسة على الصدقة. وراجع الفتوى رقم: 181295.
وكذلك ليس المقصود من الحديث حصر التنافس على هاتين الخصلتين، وإنما المقصود: أن الغبطة والحسد يكون على من حصل له هاتان الخصلتان. قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: نهى -أي النبي -صلى الله عليه وسلم-- عَن الْحَسَد إِلَّا فِيمَن أُوتِيَ الْعلم فَهُوَ يعْمل بِهِ ويعلمه، وَمن أُوتى المَال فَهُوَ يُنْفِقهُ، فَأَما من أُوتِيَ علما وَلم يعْمل بِهِ وَلم يُعلمهُ أَو أُوتِيَ مَالا وَلم يُنْفِقهُ فِي طَاعَة الله فَهَذَا لَا يحْسد، وَلَا يتَمَنَّى مثل حَاله؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي خير يرغب فِيهِ، بل هُوَ معرض للعذاب، وَمن ولي ولَايَة فيأتيها بِعلم وَعدل، وَأدّى الْأَمَانَات إِلَى أَهلهَا، وَحكم بَين النَّاس بِالْكتاب وَالسّنة، فَهَذَا دَرَجَته عَظِيمَة، لَكِن هَذَا فِي جِهَاد عَظِيم، كَذَلِك الْمُجَاهِد فِي سَبِيل الله، والنفوس لَا تحسد من هُوَ فِي تَعب عَظِيم، فَلهَذَا لم يذكرهُ، وَإِن كَانَ الْمُجَاهِد فِي سَبِيل الله أفضل من الَّذِي ينْفق المَال، بِخِلَاف الْمُنفق والمعلم؛ فَإِن هذَيْن لَيْسَ لَهما فِي الْعَادة عَدو من خَارج، فَإِن قدر أَنَّهُمَا لَهما عَدو يجاهدانه فَذَلِك أفضل لدرجتهما، وَكَذَلِكَ لم يذكر النَّبِي -صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- الْمصلي والصائم والحاج؛ لِأَن هَذِه الْأَعْمَال لَا يحصل مِنْهَا فِي الْعَادة من نفع النَّاس الَّذِي يعظمون بِهِ الشَّخْص ويسودونه مَا يحصل بالتعليم والإنفاق، والحسد فِي الأَصْل إِنَّمَا يَقع لما يحصل للْغَيْر من السؤدد والرياسة، وَإِلَّا فالعامل لَا يحْسد فِي الْعَادة وَلَو كَانَ تنعمه بِالْأَكْلِ وَالشرب وَالنِّكَاح أَكثر من غَيره، بِخِلَاف هذَيْن النَّوْعَيْنِ؛ فَإِنَّهُمَا يحسدان كثيرا، وَلِهَذَا يُوجد بَين أهل الْعلم الَّذين لَهُم أتبَاع من الْحَسَد مَالا يُوجد فِيمَن لَيْسَ كَذَلِك، وَكَذَلِكَ فِيمَن لَهُ أَتبَاع بِسَبَب إِنْفَاق مَاله، فَهَذَا ينفع النَّاس بقوت الْقُلُوب، وَهَذَا يَنْفَعهُمْ بقوت الْأَبدَان، وَالنَّاس كلهم محتاجون إِلَى مَا يصلحهم من هَذَا وَهَذَا. انتهى.
ولم نقف على من قيد جواز المنافسة على شيء أن يكون ذلك الشيء يوصل إليه بالكسب والعمل، ومتعارفًا عليه، مع ما في هذا الكلام من الإجمال الذي لا يتبين به حقيقة المراد.
وأما أن يكون التنافس في أمور الآخرة دون الدنيا: فقد سبق ذكر الخلاف بين العلماء فيما تكون فيه المنافسة.
وقوله في الحديث: "فيقول رجل: لو أن الله أعطاني ما أعطى فلانا" ليس المراد منه أن يعطيه الله ما عند أخيه، وإنما المراد: أن يعطيه مثل ما أعطاه.
وبقية الإشكالات يفهم الجواب عنها بما سبق من كلام.
والله أعلم.