الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلابد أولا من تقرير قاعدة مهمة، وهي: أن الألفاظ التي لم يأت في الكتاب والسنة نفيها ولا إثباتها، فإنا نمتنع عن إطلاقها على الله تعالى لفظا، وأما معناها فنستفصل من قائلها، فإن أراد به معنى صحيحاً وافقناه على ذلك المعنى الصحيح، ولم نوافقه على استعمال ذلك اللفظ. وهذا قد قرره الشيخ ابن عثيمين في مواضع من كتبه، ومما قال في ذلك: نفي الجسمية والتجسيم لم يرد في الكتاب والسنة، ولا في كلام السلف، فالواجب على العبد التأدب مع الله ورسوله وسلف الأمة، فلا ينفي عن الله تعالى إلا ما نفاه عن نفسه، ولا يثبت له إلا ما أثبته لنفسه. أما ما لم يرد به نفي ولا إثبات مما يحتمل حقّاً وباطلاً، فإن الواجب السكوت عنه، فلا ينفى ولا يثبت لفظه، وأما معناه فيسأل عنه، فإن أريد به حق قبل، وإن أريد به باطل رد، وعلى هذا فيسأل من نفى التجسيم، ماذا تريد بالجسم؟ فإن قال: أريد به الشيء المركب المفتقر بعضه إلى بعض في الوجود والكمال، قلنا: نفي الجسم بهذا المعنى حق؛ فإن الله تعالى واحد أحد صمد غني حميد. وإن قال: أريد به الشيء المتصف بالصفات القائمة به من الحياة، والعلم والقدرة، والاستواء والنزول، والمجيء، والوجه، واليد ونحو ذلك مما وصف الله به نفسه. قلنا: نفي الجسم بهذا المعنى باطل، فإن لله تعالى ذاتاً حقيقية، وهو متصف بصفة الكمال التي وصف بها نفسه من هذه الصفات وغيرها على الوجه اللائق به. ومن أجل احتمال الجسم لهذا وهذا، كان إطلاق لفظه نفياً وإثباتاً من البدع التي أحدثت في الإسلام، قال شيخ الإسلام ابن تيمية ص 152 ج 4 من مجموع الفتاوى لابن قاسم: "لفظ التجسيم لا يوجد في كلام أحد من السلف لا نفياً ولا إثباتاً، فكيف يحل أن يقال: مذهب السلف نفي التجسيم أو إثباته بلا ذكر لذلك اللفظ ولا لمعناه عنهم". وقال قبل ذلك ص 146 : " وأول من ابتدع الذم بها المعتزلة الذين فارقوا جماعة المسلمين" اهـ. يعني أن المعتزلة جعلوا من أثبت الصفات مجسماً وشنعوا عليهم بهذه الألفاظ المبتدعة ليغزوا بذلك عوام المسلمين. اهـ.
ولذلك قال الشيخ ابن عثيمين بعد الكلام الذي نقله عنه السائل من شرح الواسطية: على أن القول بالجسم نفياً أو إثباتاً مما أحدثه المتكلمون، وليس في الكتاب والسنة إثباته ولا نفيه. اهـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في درء تعارض العقل والنقل: الكلام في التمثيل والتشبيه ونفيه عن الله مقام، والكلام في التجسيم ونفيه مقام آخر، فإن الأول دل على نفيه الكتاب والسنة وإجماع السلف والأئمة، واستفاض عنهم الإنكار على المشبهة الذين يقولون يد كيدي وبصر كبصري وقدم كقدمي، وأما الكلام في الجسم والجوهر ونفيهما أو إثباتهما فبدعة ليس لها أصل في كتاب الله ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا تكلم أحد من السلف والأئمة بذلك ـ لا نفيا ولا إثباتا ـ والنزاع بين المتنازعين في ذلك بعضه لفظي وبعضه معنوي، أخطأ هؤلاء من وجه، وهؤلاء من وجه، فإن كان النزاع مع من يقول: هو جسم أو جوهر، إذا قال: لا كالأجسام ولا كالجواهر، إنما هو اللفظ، فمن قال: هو كالأجسام والجواهر، يكون الكلام معه بحسب ما يفسره من المعنى، فإن فسر ذلك بالتشبيه الممتنع على الله تعالى كان قوله مردودا، وذلك بأن يتضمن قوله إثبات شيء من خصائص المخلوقين لله، فكل قول تضمن هذا فهو باطل، وإن فسر قوله: جسم لا كالأجسام، بإثبات معنى آخر ـ مع تنزيه الرب عن خصائص المخلوقين ـ كان الكلام معه في ثبوت ذلك المعنى وانتفائه. اهـ. وراجع لمزيد الفائدة الفتوى رقم: 134190.
وأما ما نسبه السائل إلى فتاوانا من الحكم بكفر من اعتقد أن الله جسم، فلا نعرفه بهذا الإطلاق، وإنما كان ذلك في تشبيه الله سبحانه بخلقه وما يؤول إلى ذلك، وراجع في ذلك الفتويين: 120182، 19144.
وأما كتاب (دفع شبه التشبيه بأكف التنزيه) ففيه ما فيه من الخلط بين مذهب السلف وبين أقوال باطلة نسبت خطأ للسلف، ولذلك ننصح من قرأه بالاطلاع على كتاب مفيد بعنوان (إتحاف أهل الفضل والإنصاف بنقض كتاب ابن الجوزي دفع شبه التشبيه وتعليقات السقاف) وقد أرسل الشيخ ابن باز رسالة لمؤلفه جاء فيها: قد اطلعت على بعض مؤلفاتكم وقرأت بعض ما كتبتم في الرد على ابن الجوزي والسقاف، فسررت بذلك كثيراً وحمدت الله سبحانه على ما وفقكم له من فقه في الدين والتمسك بالعقيدة السلفية .... اهـ.
والله أعلم.