الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فلا يجوز أن يُمنع أحد من الورثة من حقه في الميراث بحجة أن الأم ما زالت حية، سواء كان ذلك الوارث غنيا أو فقيرا، والأم ليس لها ولاية على مال أبنائها وبناتها حتى لو كانوا صغارا، فكيف وهم كبار بالغون، وكل واحد منهم له الحق في أخذ نصيبه كاملا موفورا، لأنه حق ملَّكه الله إياه، ومن منع أحدا منهم من أخذ حقه فهو عاص آثم تلزمه التوبة إلى الله تعالى، ومن أخذ من التركة ما ليس له فهو ضامن يلزمه رده إلى الورثة، حتى الأم نفسها لا يجوز أن تمنع أحدا من بناتها أو أبنائها من أخذ حقهم في الميراث.
وليعلم الجميع أنهم موقوفون أمام الله تعالى يوم لا ينفع مال ولا بنون، وقد قال عليه الصلاة والسلام: مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَظْلَمَةٌ مِنْ أَخِيهِ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ مَالِهِ فَلْيَتَحَلَّلْهُ الْيَوْمَ قَبْلَ أَنْ يُؤْخَذَ حِينَ لَا يَكُونُ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ، وَإِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَجُعِلَتْ عَلَيْهِ. رواه البخاري وأحمد.
وأما هل لكم الحق في إيجار البيت أو المحل: فالذي فهمناه من السؤال أن أمكم تملك جزءا منه، لأنها شاركت بمالها فيه، وإذا كان هذا هو الواقع، فإنكم ترثون نصيب والدكم من الإيجار ويقسم بينكم القسمة الشرعية، فإذا كان والدكم قد ملك نصف العقار وملكت أمكم النصف الآخر فإنكم ترثون نصف الإيجار فقط، وأما النصف الآخر: فهو ملك لها وليس تركة عن والدكم.
وإذا وقع تنازع واختلاف وتعنت من بعض الورثة في منع الآخرين من حقهم فلترفعوا الأمر إلى المحكمة الشرعية حتى تنظر في القضية من جميع جوانبها، وتلزم الورثة بما يلزمهم شرعا حتى ولو كانت الأم هي الظالمة لم يكن هناك حرج في رفع الأمر إلى المحكمة إن لم تجدوا سبيلا آخر، ولا يعتبر هذا عقوقا، فقد دلت السنة على جواز مرافعة الوالد ومخاصمته عند المحاكم، وذلك فيما رواه البخاري في صحيحه من حديث مَعْن بْن يَزِيدَ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ قَالَ: بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا وَأَبِي وَجَدِّي، وَخَطَبَ عَلَيَّ فَأَنْكَحَنِي، وَخَاصَمْتُ إِلَيْهِ وَكَانَ أَبِي يَزِيدُ أَخْرَجَ دَنَانِيرَ يَتَصَدَّقُ بِهَا فَوَضَعَهَا عِنْدَ رَجُلٍ فِي الْمَسْجِدِ، فَجِئْتُ فَأَخَذْتُهَا فَأَتَيْتُهُ بِهَا، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا إِيَّاكَ أَرَدْتُ، فَخَاصَمْتُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: لَكَ مَا نَوَيْتَ يَا يَزِيدُ، وَلَكَ مَا أَخَذْتَ يَا مَعْنُ.
قال الحافظ في الفتح: وَفِيهِ جَوَاز التَّحَاكُم بَيْنَ الْأَبِ وَالِابْنِ، وَأَنَّ ذَلِكَ بِمُجَرَّدِهِ لَا يَكُونُ عُقُوقًا. اهـ.
والغالب في مثل هذه المسائل التي يقع فيها نزاع بين الورثة أنها تكون أحوج إلى القضاء منها إلى مجرد الفتيا، والله تعالى يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.
والله أعلم.