الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فيمكن أن يستشهد لجواز مثل هذا النوع من المزاح بقصة العجوز التي أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! ادع الله أن يدخلني الجنة، فقال: يا أم فلان! إن الجنة لا تدخلها عجوز! فولت تبكي، فقال: أخبروها أنها لا تدخلها وهي عجوز، إن الله تعالى يقول: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا} رواه الترمذي في الشمائل، وصححه الألباني بطرقه، فإن هذا الحديث يورده أهل العلم في باب مزاح النبي صلى الله عليه وسلم، كما فعل ذلك الترمذي، والبغوي في شرح السنة، والماوردي في أدب الدنيا والدين، وابن الأثير في جامع الأصول، والخطيب التبريزي في المشكاة، وابن كثير في السيرة النبوية، والمقريزي في إمتاع الأسماع بما للنبي من الأحوال والأموال والحفدة والمتاع.
والشاهد فيه أن بيان النبي صلى الله عليه وسلم لمراده لم يتصل بكلامه الأول، حتى فزعت المرأة وحزنت وولّت باكية، وجاء في بعض روايات الحديث أنها بقيت كذلك مدة خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة، قال القاري في المرقاة وفي شرح الشمائل: أخرج ابن الجوزي في كتاب (الوفا) من طريق الزبير بن بكار قال: حدثني رجل، حدثنا الفضل بن خالد النحوي، حدثنا خارجة بن مصعب، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس: أن عجوزا دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته عن شيء، فقال لها ومازحها: "إنه لا يدخل الجنة عجوز"، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة، فبكت بكاء شديدا حتى رجع النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت عائشة: يا رسول الله! إن هذه المرأة تبكي لما قلت لها: أنه لا يدخل الجنة عجوز، فضحك وقال: "أجل لا يدخل الجنة عجوز، ولكن قال الله تعالى: {إنا أنشأناهن إنشاء * فجعلناهن أبكارا * عربا أترابا} وهن العجائز الرمص. اهـ.
وقال الزرقاني في (المواهب اللدنية): كأنه صلى الله عليه وسلم فهم من حالها، إنها تريد دخولها على صفتها حالة السؤال، فمازحها مريدًا إرشادها إلى خلاف ما في وهمها، الذي لا يطابق ما سيقع ... اهـ.
وقريب من هذا من حيث حدوث الفزع أو ما سماه السائل بالمفاجأة: نوع معروف من أنواع المزاح، وهو أن يقول المازح ما يعرف أن من يمازحه سيحمله على محمل آخر يسوؤه، ثم لا يلبث أن يفهم فيفرج عنه وتصير مزحة! ومن ذلك ما ذكره الغزي في (المراح) عن حميد بن قيس قال: ورد عبد الله بن عمر ماء عسفان، وكان مولى لمعاوية عاملا على عسفان، فجاء إلى ابن عمر فسلم عليه وقال له: والله إني لأحبك في الله. فقال له ابن عمر: والله إني لأبغض ضرب وجهك! فتكعكع وقال: غفر الله لك يا أبا عبد الرحمن .. ما شأني؟ وجعل ابن عمر يضحك. فقال له قائل: إنما يقول لك أكره ضربه. اهـ.
والضرب: المثل والشكل، والصنف والنوع، كما جاء في (المعجم الوسيط) وعلى هذا المعنى حمله مولى معاوية فساءه ذلك، وإنما أراد ابن عمر الضرب المعروف، أي جلده وإصابته.
والله أعلم.