الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن من أعظم وسائل الرد أن تبين لهذا الرجل حجية السنة الثابتة وخطر إنكارها ومعارضتها بالعقل، فقد بينا ببعض الفتاوى السابقة أن إنكار السنة كفر مخرج من الملة؛ لأنها هي المبينة للقرآن والشارحة له، بل وفيها أحكام تشريعية ليست في القرآن، وبينا من حججها قول الله تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا {الحشر:7}، وقوله سبحانه: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ {النساء:80}، وقال عز وجل: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ {النحل:44}، وروى أبو داود وصححه الألباني عن المقدام بن معديكرب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه. اهـ
وأما إجماع الصحابة إن ثبت فهو حجة قطعية لا يجوز إنكارها ولا سيما إن كان ما أجمعوا عليه من الأمور الغيبية التي لا تؤخذ بالاجتهاد؛ كعذاب القبر. فإن قول الصحابي فيما لا مجال فيه للاجتهاد ولا له علاقة بلغة العرب له حكم الرفع، وذلك مثل الإخبار عن الأمور الماضية وقصص الأنبياء، والملاحم والفتن، وأحوال الآخرة، والإخبار عن ثواب مخصوص أو عقاب مخصوص، فكل هذا مما يحكم له بالرفع؛ لأنه لا مجال فيه للاجتهاد؛ كذا قال الحافظ ابن حجر ـ رحمه الله، وذكر أنه معتمد خلق كثير من كبار الأئمة كالبخاري ومسلم والشافعي والطبري والطحاوي والبيهقي وابن عبد البر وغيرهم.
إلا أنهم استثنوا من ذلك من كان من الصحابة معروفاً بالاطلاع على الإسرائيليات كمسلمة أهل الكتاب.
وقد كفر بعض أهل العلم من أنكر ما أجمع عليه الصحابة ووصفه بعض من لم يكفره بالابتداع، قال المحبوبي في التَّوْضِيح فِي حَلِّ غَوَامِضِ التَّنْقِيحِ : ثم الإجماع على مراتب: إجماع الصحابة، ثم إجماع من بعدهم فيما لم يرو فيه خلاف الصحابة ... . اهـ
قال التفتازاني في شرحه «التلويح على التوضيح»: قوله: (ثم الإجماع على مراتب) فالأولى بمنزلة الآية والخبر المتواتر يكفر جاحده، والثانية بمنزلة الخبر المشهور يضلل جاحده.... اهـ
وفي التقرير والتحبير لابن أمير: (مسألة إنكار حكم الإجماع القطعي) كإجماع الصحابة بصريح القول أو الفعل المنقول بالتواتر (يكفر) متعاطيه (عند الحنفية وطائفة); لأن إنكاره يتضمن إنكار سند قاطع وهو يتضمن إنكار صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وهو كفر، غير أن نسبة هذا إلى الحنفية ليس على العموم فيهم؛ إذ في الميزان: فأما إنكار ما هو ثابت قطعا من الشرعيات بأن علم بالإجماع والخبر المشهور فالصحيح من المذهب أنه لا يكفر. انتهى . اهـ
وقال الزركشي في البحر المحيط: إجماع الصحابة حجة بلا خلاف بين القائلين بحجية الإجماع, وهم أحق الناس بذلك, ونقل عبد الوهاب عن قوم من المبتدعة أن إجماعهم ليس بحجة, وهكذا إجماع غيرهم من العلماء في سائر الأعصار؛ خلافا لداود الظاهري... . اهـ
وقال أيضا : قال صاحب " التقويم ": قال أبو سعيد البردعي : تقليد الصحابة واجب, يترك بقوله القياس... والمروي عن أبي حنيفة: "إذا أجمعت الصحابة سلمنا لهم, وإذا جاء التابعون زاحمناهم؛ لأنه كان منهم, فلا يثبت لهم بدون إجماع. انتهى . ومن كلام الشافعي في القديم , لما ذكر الصحابة رضوان الله عليهم: وهم فوقنا في كل علم واجتهاد وورع وعقل وأمر استدرك فيه علم أو استنبط, وآراؤهم لنا أجمل وأولى بنا من آرائنا عندنا لأنفسنا، ومن أدركنا ممن يرضى أو حكى لنا عنه ببلدنا صاروا فيما لم يعلم للرسول صلى الله عليه وسلم فيه سنة إلى قولهم إن أجمعوا, وقول بعضهم إن تفرقوا، فهكذا نقول: إذا اجتمعوا أخذنا باجتماعهم, وإن قال واحدهم ولم يخالفه غيره أخذنا بقوله, وإن اختلفوا أخذنا بقول بعضهم ولم نخرج عن أقاويلهم كلهم... . اهـ
وأما عذاب القبر فأدلته متواترة، وقد جمع الإمام البيهقي طائفة كثيرة من الأحاديث فيه في كتابه: إثبات عذاب القبر وسؤال الملكين .
وذكر الكتاني في نظم المتناثر من الحديث المتواتر: عذاب القبر ونعيمه من حديث اثنين وثلاثين صحابيا، وذكر نصوص أهل العلم المثبتة لتواتر ذلك.
واختلف في كفر منكر عذاب القبر -كما قال الخادمي في بريقة محمودية-: ومن أنكر عذاب القبر فهو مبتدع; لأن أدلته إما محتملات قرآنية فلا قطع، قال في التلويح: لا حجة مع الاحتمال, أو أخبار آحاد فلا يخلو عن الاحتمال أيضا ولا يكفر بإنكار المحتمل؛ لكن يشكل بما في المواقف وتهذيب الكمال وشرح العقائد من التصريح أن أحاديث عذاب القبر بالغة إلى التواتر المعنوي, وأيضا قالوا بأن عذاب القبر حق بالإجماع مستندا بالكتاب والسنة قبل ظهور المخالف فلا يضر وقوع الخلاف لتقرر الإجماع؛ إذ الاختلاف اللاحق لا يضر الإجماع السابق بل نفس الخلاف ساقط لكونه خرق إجماع، وخرق الإجماع باطل، فأقول- والذي تقتضيه القاعدة-: هو كفر إنكار عذاب القبر، على أنه لا يبعد أن يكون من قبيل الضرورات الدينية يعرفه العامي والخاصي، واحتمال ظواهر بعض النصوص على عدم العذاب نحو قوله تعالى ـ {لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى} ـ فمع كونه مجابا في محله مرتفع بالإجماع، وقد قيل ظني الدلالة للكتاب مع قطعي الدلالة للآحاد يفيد الفرضية، وقيل أيضا: إن جميع أخبار الآحاد الموافقة للكتاب حجة قطعية فينتظم بها الاستدلال على الفرضية مطردا فاحفظها فتنفعك في مواضع شتى . اهـ
وراجع المزيد في الموضوع في الفتاوى التالية أرقامها: 2112، 58302، 229468، ويمكنك الرجوع إلى كتاب القيامة الصغرى للدكتور عمر سليمان الأشقر، للوقوف على المزيد من إثبات عذاب القبر ونعيمه.
والله أعلم.