الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن نهي الأئمة عن تقليدهم محمول على من كان قادرا على أخذ الدليل وفهمه، وأما من لم يكن قادرا على ذلك فيجوز له تقليد أحد هؤلاء الأئمة، وقد بينا ذلك في الفتوى رقم: 17519، والفتوى رقم: 157487.
وقد أجاب عن هذا الإشكال ابن رجب الحنبلي في رسالته (الرد على من اتبع غير المذاهب الأربعة) فقال رحمه الله: فإن قيل: فما تقولون في نهي الإمام أحمد وغيره من الأئمة عن تقليدهم وكتابة كلامهم، وقول الإمام أحمد: لا تكتب كلامي ولا كلام فلان وفلان، وتعلم كما تعلمنا، وهذا كثيرٌ موجود في كلامهم، قيل: لا ريب أنَّ الإمام أحمد ـ رضي الله عنه ـ كان ينهى عن آراء الفقهاء، والاشتغال بها حفظًا وكتابة، ويأمر بالاشتغال بالكتاب والسنة حفظًا وفهمًا، وكتابة ودراسة، وبكتابة آثار الصحابة والتابعين دون كلام من بعدهم، ومعرفة صحة ذلك من سقمه، والمأخوذ منه والقول الشاذ المطرح منه، ولا ريب أن هذا مما يتعين الاهتمامُ به والاشتغال بتعلمه أولاً قبل غيره، فمن عرف ذلك وبلغ النهاية من معرفته -كما أشار إِلَيْهِ الإمام أحمد- فقد صار علمُه قريبًا من علم أحمد، فهذا لا حجر عليه ولا يتوجه الكلام فيه، إنَّما الكلام في منع من لم يبلغ هذه الغاية ولا ارتقى إِلَى هذه النهاية، ولا فهم من هذا إلا النزر اليسير، كما هو حال أهل هذا الزمان، بل هو حالُ أكثر الناس منذ أزمان، مع دعوى كثير منهم الوصول إِلَى الغايات، والانتهاء إِلَى النهايات، وأكثرهم لم يرتقوا عن درجة البدايات، وإذا أردت معرفة ذلك وتحقيقه، فانظر إِلَى علم الإمام أحمد ـ رضي الله عنه ـ بالكتاب والسنة. انتهى.
ومن قلد الإمام أبا حنيفة ـ رحمه الله ـ أو غيره من الأئمة دون علمه بالدليل، فإن كان غير قادر كالمقلد العامي فلا شيء عليه، يقول الدكتور عياض السلمي في كتابه: أصول الفقه الذي لا يسع الفقيه جهله: ... وأما المقلّدُ الذي لا قدرةَ له على فهم الأدلّة والموازنة بينها: ففرضُه سؤالُ مَن يثقُ في علمه ودينه من العلماء، لقوله تعالى: فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون {النحل43} . وراجع الفتوى رقم: 265300.
والله أعلم.