الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن ما يلقى في النفوس من الإلهام والكشف لخواطر الناس وغيرها أمر واقع لا ينكر، وهي على أنواع، فمنها ما يكون أمرا نفسانيا، وقد يكون مصدرها شيطانيا، وقد يكون رحمانيا ـ وهذا النوع الأخير هو الذي يكون كرامة من الله وثوابا لعبده المؤمن ـ.
قال ابن تيمية: نحن لا ننكر أن النفس يحصل لها نوع من الكشف إما يقظة وإما مناما بسبب قلة علاقتها مع البدن إما برياضة أو بغيرها، وهذا هو الكشف النفساني، لكن قد ثبت أيضا بالدلائل العقلية مع الشرعية وجود الجن وأنها تخبر الناس بأخبار غائبة عنهم كما للكهان المصروعين وغيرهم.... ثم قال: ولكن المقصود هنا أنه يعلم وجود أمور منفصلة مغايرة لهذه القوى كالجن المخبرين لكثير من الكهان بكثير من الأخبار، وهذا أمر يعلمه بالضرورة كل من باشره أو من أخبره من يحصل له العلم بخبره، ونحن قد علمنا ذلك بالاضطرار غير مرة، فهذا نوع من المكاشفات والإخبار بالغيب غير النفساني.
وأما القسم الثالث وهو ما تخبر به الملائكة فهذا أشرف الأقسام كما دلت عليه الدلائل الكثيرة السمعية والعقلية، فالإخبار بالمغيبات يكون عن أسباب نفسانية، ويكون عن أسباب خبيثة شيطانية وغير شيطانية، ويكون عن أسباب ملكية. اهـ. من الصفدية بتصرف.
وقال ابن القيم: الكشف الجزئي المشترك بين المؤمنين والكفار، والأبرار والفجار، كالكشف عما في دار إنسان، أو عما في يده، أو تحت ثيابه، أو ما حملت به امرأته بعد انعقاده ذكرا أو أنثى، وما غاب عن العيان من أحوال البعد الشاسع ونحو ذلك، فإن ذلك يكون من الشيطان تارة، ومن النفس تارة، ولذلك يقع من الكفار، كالنصارى، وعابدي النيران والصلبان، فقد كاشف ابن صياد النبي صلى الله عليه وسلم بما أضمره له وخبأه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنما أنت من إخوان الكهان» فأخبر أن ذلك الكشف من جنس كشف الكهان، وأن ذلك قدره، وكذلك مسيلمة الكذاب مع فرط كفره كان يكاشف أصحابه بما فعله أحدهم في بيته وما قاله لأهله، يخبره به شيطانه، ليغوي الناس، وكذلك الأسود العنسي، والحارث المتنبي الدمشقي الذي خرج في دولة عبد الملك بن مروان، وأمثال هؤلاء ممن لا يحصيهم إلا الله، وقد رأينا نحن وغيرنا منهم جماعة، وشاهد الناس من كشف الرهبان عباد الصليب ما هو معروف، والكشف الرحماني من هذا النوع: هو مثل كشف أبي بكر لما قال لعائشة رضي الله عنهما: إن امرأته حامل بأنثى، وكشف عمر رضي الله عنه لما قال: يا سارية الجبل، وأضعاف هذا من كشف أولياء الرحمن. اهـ. من مدارج السالكين.
لكن وقوع الكشف عما في الخواطر لبعض العباد أحيانا لا يعني أبدا أن بشرا يستطيع الوصول إلى العلم بخواطر الناس والتخاطر معهم متى شاء وأراد! كلا، فالله عز وجل وحده هو الذي تفرد بعلم ما في صدور العباد ، قال تعالى: قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ {النمل:65}، وقال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ {آل عمران:119}،
والكشف قد يقع أحيانا كثيرة دون اختيار من العبد بل يلقى في رُوعه بلا تسبب منه، وقد يصل إليه المرء بسبب محرم شرعا ـ كاستعانة بالشياطين ونحوهم ـ.
فيحسن بالمسلم عدم المبالغة في التشاغل بهذه الأمور، إذ قد يؤدي الغلو فيها إلى الوقوع فيما لا يحمد.
وراجعي لمزيد الفائدة الفتوى رقم: 200503، والفتوى رقم: 118569، والفتوى رقم: 132035.
والله أعلم.