الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فقد سبق أن بينا في الفتوى رقم: 1720، أنه لا بأس بالصلاة في مكان مظلم لا سيما إذا كان لتحصيل الخشوع وصرف الشواغل، وأنه لا مزية في الأصل في الصلاة في مكان مظلم.
وعليه؛ فلا حرج في إطفاء المصابيح، وممن أفتى من المعاصرين بجواز إطفاء الأنوار لتحصيل الخشوع الشيخ مقبل الوادعي فقد سئل عن ذلك وهل يصل لدرجة البدعة؟ فقال: لا، لا يصل لدرجة البدعة، وليس بسنة، فإذا كان الشخص يزداد خشوعا إذا غمض عينيه أو أطفئت الكهرباء، فيكون أبعد من الرياء، فلا بأس بذلك، على أن الناس يختلفون فما ينبغي أن يفرض الشخص رأيه ويطفئ الكهرباء، فمن الناس من يحب ذلك. اهـ.
والصلاة في المكان المظلم مباحة في الأصل، وقد وردت أحاديث صحيحة تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي في الظلام، من ذلك ما رواه الشيخان عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهَا قَالَتْ: كُنْتُ أَنَامُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرِجْلاَيَ فِي قِبْلَتِهِ، فَإِذَا سَجَدَ غَمَزَنِي، فَقَبَضْتُ رِجْلَيَّ، فَإِذَا قَامَ بَسَطْتُهُمَا، قَالَتْ: وَالبُيُوتُ يَوْمَئِذٍ لَيْسَ فِيهَا مَصَابِيحُ...
وليس معنى قولها: ليس فيها مصابيح ـ أنها لم تكن موجودة أصلا ولا يعرفونها، بل كانت موجودة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم معروفة، بدليل قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث: أَطْفِئُوا المَصَابِيحَ بِاللَّيْلِ إِذَا رَقَدْتُمْ، وَغَلِّقُوا الأَبْوَابَ رواه البخاري.
وإنما المراد من قولها: ليس فيها مصابيح ـ أنهم لم يكونوا متوسعين في متع الدنيا بحيث تكثر المصابيح في البيوت، ولذا استدل بعض العلماء بقولها: ليس في البيوت مصابيح ـ على مشروعية الصلاة في الظلام، قال ابن العربي في شرح الموطأ: قولها: وَالبُيُوتُ لَيْسَ فِيهَا مَصَابِيحُ ـ فيه التَّزَهُّد في الدُّنيا وأخذ البُلْغَةِ منها، وترك الاتِّساع في البُنْيَانِ، وفيه: أنّ الصّلاةَ في الظَّلامِ مأمورٌ بها, لتكون له نورًا يوم القيامة، ولقوله: أَطْفِئُوا المَصَابِيحَ. اهــ.
والذي يظهر من قول ابن العربي رحمه الله: مأمور بها ـ أي مرغب فيها للعلة التي ذكرها وهي أن تكون له نورا، وليس المراد أنه جاء الأمر بالصلاة في الظلام، وسواء قيل إنه مرغب فيها أو قيل إن الأصل فيها الإباحة، فإن إطفاء المصابيح مباح في الأصل، فإذا فُعِلَ لأجل تحصيل مقصد شرعي في الصلاة وهو الخشوع، ولم يترتب على إطفائها ضرر بأحد المصلين كتعثره في الظلمة أو سرقة متاع ونحوه، فلا حرج، وهذا الإمام ابن القيم حين ذكر مسألة تغميض العينين في الصلاة وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يغمضهما ونقل كراهة التغميض عن بعض الفقهاء، مع ذلك قال بجواز تغميضهما، بل بندبه إذا كان فيه تحصيل للخشوع، فقد قال ـ رحمه الله تعالى ـ في الزاد: إِنْ كَانَ تَفْتِيحُ الْعَيْنِ لَا يُخِلُّ بِالْخُشُوعِ، فَهُوَ أَفَضْلُ، وَإِنْ كَانَ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْخُشُوعِ لِمَا فِي قِبْلَتِهِ مِنَ الزَّخْرَفَةِ وَالتَّزْوِيقِ أَوْ غَيْرِهِ مِمَّا يُشَوِّشُ عَلَيْهِ قَلْبَهُ، فَهُنَالِكَ لَا يُكْرَهُ التَّغْمِيضُ قَطْعًا، وَالْقَوْلُ بِاسْتِحْبَابِهِ فِي هَذَا الْحَالِ أَقْرَبُ إِلَى أُصُولِ الشَّرْعِ وَمَقَاصِدِهِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْكَرَاهَةِ.... اهـ.
وإبقاء النور ليس واجبا في الصلاة ولا ركنا ولا مستحبا، وما أحسن ما قاله الشيخ الخضير حين سئل عن الصلاة في الظلام، قال: الصلاة إذا تمت بشروطها وأركانها وواجباتها صحيحة، والنور ليس بشرط ولا ركن ولا واجب، اللهم إلا إن كان الظلام مصدر خوفٍ يشوش على المصلي ويُذهب خشوعه، فإنه تكره الصلاة فيه حينئذٍ.. اهـ.
وسئل الشيخ ابن عثيمين ـ رحمه الله تعالى: ما صحة ما يروى أن الصلاة في الظلام مكروهة؟ فأجاب بقوله: أنا لا أعرف هذا الحديث، وعلى من أتى به أن يتحقق منه، والصلاة في الظلام في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كانت هي الأصل لأن مساجد النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت ليس فيها مصابيح، كما قالت عائشة رضي الله عنها: والبيوت يومئذ ليست فيها مصابيح. اهــ.
وقد اطلعنا على بيان وزارة الأوقاف المشار إليه، وقد جاء فيه أن الصلاة في الظلمة أول من استحدثها بنو إسرائيل، ونحن لم نقف على هذا الذي ذكروه، ولو فُرِضَ أنه صحيح، فهذا وحده لا يكفي في الحكم بعدم جواز الصلاة في الظلمة، فقد بينا في أول الفتوى أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في الظلمة، وأن من الفقهاء من يرى أنها مشروعة.
والله أعلم.