الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فإن كانت أمّك قد فعلت بك ما ذكرت فلا شك في كونها مسيئة بذلك إساءة عظيمة، فالإضرار بالمسلم لا يجوز، وكذا إشانة سمعته، قال تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا {الأحزاب:58}. وروى الترمذي عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر، فنادى بصوت رفيع فقال: يا معشر من قد أسلم بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه، لا تؤذوا المسلمين، ولا تعيروهم، ولا تتبعوا عوراتهم؛ فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله.
قال: ونظر ابن عمر يومًا إلى البيت أو إلى الكعبة فقال: ما أعظمك وأعظم حرمتك! والمؤمن أعظم حرمة عند الله منك.
فإذا كان هذا في حق المسلمين عمومًا، فكيف بمن كانت بينهم رحم تجب صلتها وتحرم قطيعتها. ولكن من المعلوم أن الغالب في الأمّ الشفقة على أولادها، والبنات منهم خاصة، فمن الغريب أن يكون تصرفها معك على هذا الوجه، ومن هنا فإننا نوصيك بالتماس سبب غضبها عليك، وينبغي على كل حال أن تسعي في كل سبيل صحيح لإصلاح ما بينك وبينها. ولا تنسي الإكثار من الدعاء، بالإضافة إلى وساطة أهل الخير إن اقتضى الأمر ذلك.
وهجران الأم لا يجوز؛ فإن الله تعالى قد أمر بحسن صحبة الوالدين ولو كانا كافرين جاهدين في سبيل إضلال ابنهما، كما قال سبحانه: وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ {لقمان:15}. نعم، من أهل العلم -كالشيخ/ ابن عثيمين- من ذهب إلى جواز هجرهما للمصلحة الشرعية، وقد نقلنا كلامه في ذلك في الفتوى رقم: 135440. ولكن الغالب أن لا مصلحة في هجرهما.
ولذا فإننا نوصيك بصلتها وزيارتها عسى أن يكون ذلك سببًا للين قلبها وكسب ودها، قال الله عز وجل: وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ {فصلت:34}. قال ابن كثير: وقوله: ولا تستوي الحسنة ولا السيئة؛ أي: فرق عظيم بين هذه وهذه، ادفع بالتي هي أحسن؛ أي: من أساء إليك، فادفعه عنك بالإحسان إليه، كما قال عمر رضي الله عنه: ما عاقبت من عصى الله فيك، بمثل أن تطيع الله فيه. وقوله: فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم؛ وهو الصديق، أي: إذا أحسنت إلى من أساء إليك، قادته تلك الحسنة إليه إلى مصافاتك ومحبتك، والحنو عليك، حتى يصير كأنه ولي لك حميم؛ أي: قريب إليك من الشفقة عليك، والإحسان إليك. اهـ.
والله أعلم.