الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فكل شيء يقع في الوجود إنما هو بقضاء الله وقدره، كما قال تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ {القمر:49}.
وقد قدر الله تعالى حصول ما قضاه بأسباب تقتضي ذلك، فالسبب والنتيجة كله بقدر الله جل وعز، ففي المثال المذكور فإن تدخين هذا الشخص الذي نتج عنه إصابته بما أصيب به كله بقدر الله، وليس لهذا الشخص حجة على الله، بل لله الحجة البالغة على جميع خلقه، فإنه أقام الحجج، وأرسل الرسل، وأزال العلل، وقطع المعاذير، قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: وَاَللَّهُ يَعْلَمُ مَا كَانَ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ، وَقَدْ كَتَبَ ذَلِكَ، فَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ هَذَا يَمُوتُ بِالْبَطْنِ، أَوْ ذَاتِ الْجَنْبِ، أَوْ الْهَدْمِ، أَوْ الْغَرَقِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ، وَهَذَا يَمُوتُ مَقْتُولًا، إمَّا بِالسُّمِّ، وَإِمَّا بِالسَّيْفِ، وَإِمَّا بِالْحَجَرِ، وَإِمَّا بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ الْقَتْلِ، وَعِلْمُ اللَّهِ ذَلِكَ، وَكِتَابَتُهُ لَهُ ـ بَلْ مَشِيئَتُهُ لِكُلِّ شَيْءٍ، وَخَلْقُهُ لِكُلِّ شَيْءٍ ـ لَا يَمْنَعُ الْمَدْحَ وَالذَّمَّ، وَالثَّوَابَ وَالْعِقَابَ، بَلْ الْقَاتِلُ إنْ قَتَلَ قَتلًا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ، كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَثَابَهُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنْ قَتَلَ قَتِيلًا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، كَفعلِ الْقُطَّاعِ وَالْمُعْتَدِينَ، عَاقَبَهُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنْ قَتَلَ قَتلًا مُبَاحًا، كَقَتلِ الْمُقْتَصِّ، لَمْ يُثَبْ وَلَمْ يُعَاقَبْ، إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ نِيَّةٌ حَسَنَةٌ أَوْ سَيِّئَةٌ فِي أَحَدِهِمَا. انتهى.
وأما ما كان سيحدث لو لم يكن هذا الشخص يدخن، فمرد علمه إلى الله تعالى، فإنه وحده هو الذي يعلم ما لم يكن لو كان كيف كان يكون، قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: وَلَوْ لَمْ يُقْتَلْ الْمَقْتُولُ فَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْقَدَرِيَّةِ: إنَّهُ كَانَ يَعِيشُ، وَقَالَ بَعْضُ نفاة الْأَسْبَابِ: إنَّهُ كان يَمُوت، وَكِلَاهُمَا خَطَأٌ، فَإِنَّ اللَّهَ عَلِمَ أَنَّهُ يَمُوتُ بِالْقَتْلِ، فَإِذَا قَدَّرَ خِلَافَ مَعْلُومِهِ كَانَ تَقْدِيرًا لِمَا لَا يَكُونُ لَوْ كَانَ كَيْفَ كَانَ يَكُونُ؟ وَهَذَا قَدْ يَعْلَمُهُ بَعْضُ النَّاسِ، وَقَدْ لَا يَعْلَمُهُ، فَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّ اللَّهَ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ قَدَّرَ مَوْتَهُ فِي هَذَا الْوَقْتِ، وَأَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ قَدَّرَ حَيَاتَهُ إلَى وَقْتٍ آخَرَ، فَالْجَزْمُ بِأَحَدِ هَذَيْنِ عَلَى التَّقْدِيرِ الَّذِي لَا يَكُونُ جَهْلٌ، وَهَذَا كَمَنْ قَالَ: لَوْ لَمْ يَأْكُلْ هَذَا مَا قُدِّرَ لَهُ مِنْ الرِّزْقِ قد كَان يَمُوت، أَوْ يُرْزَق شَيْئًا آخَرَ، وَبِمَنْزِلَةِ مَنْ قَالَ: لَوْ لَمْ يُحْبِلْ هَذَا الرَّجُلُ لهَذِهِ الْمَرْأَة هَلْ كانت عَقِيمًا أَم يُحْبِلُهَا رَجُلٌ آخَرُ، وَلَوْ لَمْ تَزْدَرِعْ هَذِهِ الْأَرْضُ هَلْ كَانَ يَزْدَرِعُهَا غَيْرُهُ أَمْ كَانَتْ تَكُونُ مَوَاتًا لَا زرع بها، وَهَذَا الَّذِي تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ مِنْ هَذَا لَوْ لَمْ يَتعلمهُ هَلْ كَانَ يَتَعَلَّمُه مِنْ هذا أَمْ لَمْ يَكُنْ يَتَعَلَّمُ الْقُرْآنَ أَلْبَتَّةَ، وَمِثْلُ هَذَا كثير. انتهى.
وبه يتبين لك أن هذا الذي أدمن التدخين حتى أصابه ما أصابه قد ألقى بيده إلى التهلكة، وتسبب بهذا السبب المحرم في حصول ذلك المرض، وأن هذا السبب وتلك النتيجة مقدران أزلًا، وأنه مؤاخذ على ما فعله، وأن الذي كان يصيبه لو لم يكن يدخن لا يمكن القطع به، فإن الله وحده هو العالم بما لم يكن لو كان كيف كان يكون.
والله أعلم.