الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فما دامت زاوية انحراف القبلة 45 درجة تقريبا، فهذا من الانحراف اليسير، وهو لا يضر من كان بعيدا عن الكعبة؛ لأن فرضه التوجه إلى جهة الكعبة لا عينها، على الراجح من أقوال أهل العلم؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ قِبْلَةٌ. رواه الترمذي وابن ماجه، وصححه الألباني. وراجع في ذلك الفتوى رقم: 151119. ومما يؤكد ذلك، قول النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة، ولا تستدبروها ببول ولا غائط، ولكن شرقوا أو غربوا. رواه البخاري ومسلم.
قال شيخ الإسلام -رحمه الله- في شرح العمدة: هذا بيان لأن ما سوى التشريق والتغريب، استقبال للقبلة، أو استدبار لها، وهذا خطاب لأهل المدينة ومن كان على سمتهم ... لأن ذلك إجماع الصحابة رضي الله عنهم؛ قال عمر: ما بين المشرق والمغرب قبلة كله، إلا عند البيت ... وعن عثمان -رضي الله عنه- أنه قال: كيف يخطئ الرجل الصلاة وما بين المشرق والمغرب قبلة، ما لم يتحر المشرق عمدا. اهـ. وقال الشيخ ابن عثيمين في الشرح الممتع: وبهذا نعرف أن الأمر واسع، فلو رأينا شخصا يصلي منحرفا يسيرا عن مسامتة [أي: محاذاة] القبلة، فإن ذلك لا يضر؛ لأنه متجه إلى الجهة، وهذا فرضه. اهـ. وهذا من يسر الشريعة وسماحتها، ورفع الحرج عن أتباعها.
قال ابن رجب في (فتح الباري): وكذلك القبلة، لا تحتاج إلى حساب ولا كتاب، وإنما تعرف في المدينة وما سامتها من الشام والعراق، وخراسان بما بين المشرق والمغرب. ولهذا روي عن عثمان بن عفان، أنه قال: كيف يخطئ الرجل الصلاة، وما بين المشرق والمغرب قبلة، ما لم يتحيز المشرق عمدا. وقد اجتمعت الأمة على صحة الصف المستطيل مع البعد عن الكعبة، مع العلم بأنه لا يمكن أن يكون كل واحد منهم مستقبلا لعينها، بحيث أنه لو خرج من وسط وجهه خط مستقيم لوصل إلى الكعبة على الاستقامة، فإن هذا لا يمكن إلا مع التقوس ولو شيئا يسيرا، وكلما كثر البعد، قل هذا التقوس لكن لا بد منه. اهـ.
وضابط اليسر في الانحراف، يؤخذ من كلام شيخ الإسلام حيث يقول: أجمع المسلمون على أنه يجب على المصلي استقبال القبلة في الجملة، فالمأمور به الاستقبال للقبلة، وتولية الوجه شطر المسجد الحرام، فينظر هل الاستقبال وتولية الوجه من شرطه أن يكون وسط وجهه مستقبلا لها -كوسط الأنف، وما يحاذيه من الجبهة والذقن ونحو ذلك. أو يكون الشخص مستقبلا لما يستقبله إذا وجه إليه وجهه وإن لم يحاذه بوسط وجهه- فهذا أصل المسألة. ومعلوم أن الناس قد سن لهم أن يستقبلوا الخطيب بوجوههم، ونهوا عن استقبال القبلة بغائط أو بول، وأمثال ذلك مما لم يشترط فيه أن يكون الاستقبال بوسط الوجه والبدن؛ بل لو كان منحرفا انحرافا يسيرا لم يقدح ذلك في الاستقبال. والاسم إن كان له حد في الشرع رجع إليه، وإلا رجع إلى حده في اللغة والعرف، والاستقبال هنا دل عليه الشرع واللغة والعرف. وأما الشارع فقال: "ما بين المشرق والمغرب قبلة" ومعلوم أن من كان بالمدينة والشام ونحوهما إذا جعل المشرق عن يساره، والمغرب عن يمينه فهو مستقبل للكعبة ببدنه؛ بحيث يمكن أن يخرج من وجهه خط مستقيم إلى الكعبة ومن صدره وبطنه؛ لكن قد لا يكون ذلك الخط من وسط وجهه وصدره. فعلم أن الاستقبال بالوجه أعم من أن يختص بوسطه فقط. اهـ.
وقال ابن عابدين في حاشيته: الانحراف اليسير لا يضر، وهو الذي يبقى معه الوجه، أو شيء من جوانبه مسامتا لعين الكعبة، أو لهوائها، بأن يخرج الخط من الوجه، أو من بعض جوانبه، ويمر على الكعبة أو هوائها مستقيما، ولا يلزم أن يكون الخط الخارج على استقامة خارجا من جبهة المصلي، بل منها أو من جوانبها ... فإن الجبين طرف الجبهة وهما جبينان، وعلى ما قررناه يحمل ما في الفتح والبحر عن الفتاوى من أن الانحراف المفسد أن يجاوز المشارق إلى المغارب. اهـ. ويمكن أن يقال إن الانحراف الكثير المؤثر هو ما تكون به قبلة المصلي عن يمينه، أو يساره تماما، فكأنه شرَّق عنها أو غرَّب. قال الدردير في الشرح الكبير: الانحراف الكثير أن يشرق، أو يغرب. اهـ. وقال ابن عثيمين في لقاء الباب المفتوح: إذا كان الانحراف كثيراً بحيث إذا كانت القبلة عن يمينه، أو عن يساره فعليه أن يعيد الصلاة، وأما إذا كان الانحراف يسيراً فإنه لا يضر. اهـ. وراجع للفائدة الفتويين: 167373، 49853.
وبما قدمناه، يعلم السائل أن الصلاة في المساجد محل السؤال صحيحة مجزئة، ما دام الانحراف يسيرا وفق ما بينا، وإن كان الأفضل تعديل قبلتها ما أمكن ذلك، بحيث يصيب المصلي عين الكعبة، أو يقاربها بقدر المستطاع؛ خروجا من الخلاف، وتحريا للأفضل.
وعلى ذلك، فلا داعي للتفصيل في جواب بقية أسئلة السائل؛ لأن مبناها على بطلان الصلاة في هذه المساجد. والأمر ليس كذلك.
والله أعلم.