الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فلا ريب في وجوب صلة الرحم، وتحريم قطيعتها، وقد جاءت بذلك نصوص الشرع الكثيرة، ذكرنا جملة منها في الفتوى رقم: 116567.
وإن من أعظم الأذى والإساءة، ما يصدر من ذلك عمن يرجى منهم الرحمة والإحسان. وقد أحسن من قال:
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على النفس من وقع الحسام المهند
ولكن ينبغي أن يقابل أذاهم بالصبر، ففي ذلك الفضل العظيم والثواب الجزيل، روى مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رجلا قال: يا رسول الله؛ إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني، وأحسن إليهم، ويسيئون إلي، وأحلم عنهم، ويجهلون علي. فقال: لئن كنت كما قلت، فكأنما تسفهم الملَّ، ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك.
وأذاهم لا يسقط وجوب صلتهم، لكنه يسقط صورة الصلة التي تتسبب في أذيتكم كالزيارة، وتبقى الصور الأخرى كالسلام، وتقديم العون عند الحاجة، والتفقد لأحوالهم والدعاء لهم؛ لأن الضرر يزال، والصلة تتحقق بكل ما عده العرف صلة.
قال الحافظ ابن حجر في الفتح: تكون صلة الرحم بالمال، وبالعون على الحاجة، وبدفع الضر، وبطلاقة الوجه وبالدعاء، والمعنى الجامع إيصال ما أمكن من الخير، ودفع ما أمكن من الشر بحسب الطاقة، وهذا إنما يستمر إذا كان أهل الرحم أهل استقامة، فإن كانوا كفارا أو فجارا، فمقاطعتهم في الله هي صلتهم، بشرط بذل الجهد في وعظهم، ولا يسقط مع ذلك صلتهم بالدعاء لهم بظهر الغيب أن يعودوا إلى الطريق المثلى. اهـ.
ومقابلة الإساءة بالإحسان من أفضل السبل للإصلاح، قال تعالى: وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ {فصلت:34}.
قال ابن كثير: وقوله: ولا تستوي الحسنة ولا السيئة؛ أي: فرق عظيم بين هذه وهذه، ادفع بالتي هي أحسن؛ أي: من أساء إليك، فادفعه عنك بالإحسان إليه، كما قال عمر رضي الله عنه: ما عاقبتَ من عصى الله فيك، بمثل أن تطيع الله فيه.
وقوله: فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم؛ وهو الصديق، أي: إذا أحسنت إلى من أساء إليك، قادته تلك الحسنة إليه إلى مصافاتك ومحبتك، والحنو عليك، حتى يصير كأنه ولي لك حميم؛ أي: قريب إليك من الشفقة عليك، والإحسان إليك. اهـ.
والله أعلم.