الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإنا لا نعلم السياق الذي ورد فيه هذا الكلام. وعليه، فحمله على تعمد مخالفة القرآن والرد عليه، وبالتالي كفره، ووجوب التوبة، خطأ بين؛ فإن أهل العلم نصوا على عدم تكفير من قال كلاما محتملا.
فقد جاء في شرح الشفا للملا علي قاري: وقد قال علماؤنا: إذا وجد تسعة وتسعون وجها تشير إلى تكفير مسلم، ووجه واحد إلى إبقائه على إسلامه، فينبغي للمفتي والقاضي أن يعملا بذلك الوجه، وهو مستفاد من قوله عليه السلام: ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم؛ فإن وجدتم للمسلم مخرجا فخلوا سبيله، فإن الإمام لأن يخطئ في العفو، خير له من أن يخطئ في العقوبة. رواه الترمذي وغيره والحاكم وصححه. اهـ.
فهذ الشخص قد يكون أراد التكاليف التي تحتاج لمجاهدة وصبر، كما في الوضوء على المكاره، والصوم والحج في الحر، ولا شك أن شريعة الله حنيفية سمحة، مبنية على اليسر، والتخفيف على العباد، ورفع الحرج عنهم، وهذا من قواعد الشريعة وأصولها، كما قال تعالى: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ {الحج:78}، وقال سبحانه: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ {البقرة:185}، وقال تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ {النساء:28}.
والنصوص في هذا المعنى كثيرة، ولا ينفي هذا أن توجد بعض أحكام الشرع مشتملة على نوع صعوبة ومشقة وكلفة؛ لما يعلمه الله في ذلك من الحكمة، فما وجد من الأحكام مشتملا على المشقة، لم يرد الله به أن يعنت على عباده، ولا أن يشق عليهم، وإنما أراد به مصلحتهم، وما فيه نفعهم في دنياهم وآخرتهم، فهذه المشقة التي اشتملت عليها الأحكام، تتضمن مصالح كبيرة دينية ودنيوية، وكلما التزم العبد بفعل ما أمره الله به، وترك ما نهاه الله عنه، ولو شق عليه، كان ذلك سببا لمزيد الأجر.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: فالله سبحانه إنما حرم علينا الخبائث؛ لما فيها من المضرة والفساد، وأمرنا بالأعمال الصالحة؛ لما فيها من المنفعة والصلاح لنا، وقد لا تحصل هذه الأعمال إلا بمشقة؛ كالجهاد، والحج، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وطلب العلم، فيحتمل تلك المشقة، ويثاب عليها لما يعقبه من المنفعة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة لما اعتمرت من التنعيم عام حجة الوداع: ((أجرك على قدر نصبك)). انتهى.
وإذا تجاوز الأمر المشقة إلى درجة لا تطاق، يسر الله تعالى، ورفع التكليف بما فوق الطاقة؛ لقول الله تعالى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا{البقرة:286}. وقوله تعالى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا {الطلاق:7}. وقوله تعالى: رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ. {البقرة:286}، وثبت في صحيح مسلم أن الله تعالى قال: نعم، وفي رواية: قد فعلت.
ولا ريب أن الشريعة جاءت برفع الحرج، وهو مقصد من مقاصد الشريعة، وأصل من أصولها، وقد بنيت عليه كثير من الأحكام الفقهية، وقد ذكرنا جملة من أدلة رفع الحرج في الشرع، وذلك بالفتوى رقم: 74704.
ولا منافاة بين هذا، وبين ما ثبت في الحديث من أن الدين يسر؛ لأن المراد بالحديث يسر الإسلام بالنسبة لما في الأديان قبله من الإصْر.
ففي حاشية السيوطي على سنن النسائي: إن هذا الدين يسر، سماه يسرا مبالغة بالنسبة إلى الأديان قبله؛ لأن الله تعالى رفع عن هذه الأمة الإصر الذي كان على من قبلهم، ومن أوضح الأمثلة له أن توبتهم كانت بقتل أنفسهم وتوبة هذه الأمة بالإقلاع والعزم والندم ...اهـ.
والله أعلم.