الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن منع أصحاب الروائح المؤذية من حضور صلاة الجماعة في المساجد، له أصل شرعي، وعلى العمال ألا يجدوا في أنفسهم حرجا من المنع منه، وانبعاث الروائح الكريهة بسبب العمل ليس مما يعاب به المرء، بل عمل المرء الحلال وكسبه بيده ممدوح شرعا، وهو شرف له، وقد ينقلب عبادة بحسب قصد صاحبه وإحسان نيته، واستشعارهم أن الشرع نهاهم عن دخول المسجد، ورخص لهم في التخلف عن جماعة المسجد قبل أن يزيلوا تلك الرائحة التي تشق عليهم إزالتها مما يعينهم على تقبل هذا الأمر، ولعله يكتب لهم أجر ما رغبوا فيه، ولم يمنعهم منه إلا امتثال أمر الشرع، وعليهم أن يحسنوا الظن بإخوانهم الذين قاموا بذلك التخصيص، وأن يحملوا فعلهم على المحمل الحسن، وأنهم أرادوا مراعاة مقصد الشرع في البعد عن الروائح المؤذية التي تعكر على حضور القلب والخشوع في الصلاة، وإن كان قصد إخوانهم في حقيقة الأمر التكبر والترفع عن مخالطة العمال، فالله حسيبهم في ذلك، وهو من يتولى جزاءهم، ولا يضر ذلك العمال شيئا، ولا ينقص ثوابهم وقدرهم عند ربهم سبحانه، ودليل ما خلصنا إليه في هذه المقدمة ما جاء في السنة من النهي عن قربان المسجد لمن أكل ثوما ونحوه مما له رائحة يُتأذى منها، فعن جابر بن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من أكل من هذه البقلة، الثوم، وقال مرة: من أكل البصل والثوم والكراث فلا يقربن مسجدنا، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم. أخرجه الشيخان، واللفظ لمسلم.
بل جاء في السنة إخراج من وجد منه ريح البصل والثوم من المسجد، ففي صحيح مسلم أن عمر قال في خطبته: ثم إنكم، أيها الناس تأكلون شجرتين لا أراهما إلا خبيثتين، هذا البصل والثوم لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا وجد ريحهما من الرجل في المسجد، أمر به فأخرج إلى البقيع.
وفي كشاف القناع: ويكره حضور المسجد لمن أكل ثوما أو بصلا أو فجلا ونحوه، حتى يذهب ريحه، ولو خلا المسجد من آدمي، لتأذى الملائكة بريحه، ولحديث: من أكل من هذه الشجرة الخبيثة فلا يقربن مصلانا. اهـ.
وقال ابن رجب الحنبلي في كتابه فتح الباري: وألحق أصحاب مالك به: كل من له رائحة كريهة يتأذى بها، كالحراث والحوات، وفيه نظر، فإن هذا أثر عمل مباح، وصاحبه محتاج إليه، فينبغي أن يؤمر إذا شهد الصلاة في جماعته بالغسل وإزالة ما يتأذى برائحته منه، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم من كان يشهد الجمعة من الأنصار الذين كانوا يعملون في نخلهم ويلبسون الصوف ويفوح ريحهم بالغسل، وأمرهم بشهود الجمعة في ثوبين غير ثوبي المهنة. اهـ.
وبمقتضى هذه النصوص، فإنا نرى أن الأمثل لهذه القضية ليس بناء مسجد خاص بهؤلاء العمال‘ له أحكام المساجد، لأن المسجد حيث كان له حرمة تقتضي عدم دخول من فيه رائحة كريهة إليه، ولو لم يكن فيه أحد، كما سبق فيما نقلناه من كتاب الكشاف، وإنما الحل في أحد أمرين: إما أن يؤمروا بالاغتسال وتبديل ملابسهم كلما أرادوا دخول المسجد، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحاب المهن بذلك إذا أرادوا حضور صلاة الجمعة، كما تقدم في كلام ابن رجب، ولا يخفى ما في ذلك المشقة عليهم، وإما أن يخصص لهم مكان يصلون فيه جماعة، وهذا الحل هو الأمثل، لأنه إذا لم يخصص لهم مكان لأداء الصلاة لأدَّى ذلك إلى تركهم لصلاة الجماعة، بل وربما تكاسلهم عن الصلاة رأسا، وقد سئل ابن عثيمين: هناك جماعة في المسجد تريد أن تطرد عمالاً يصلون معهم بحجة رائحة العرق الكريهة، وأنهم يوسخون المسجد، والذي يدعوهم إلى هذا طالب علم هناك أفتاهم بأن يطردوهم بحجة أن النبي صلى الله عليه وسلم طرد الذي أكل البصل والثوم، فما رأيكم يا شيخ؟ فأجاب: إذا كانت الرائحة مؤذية لا تحتمل فهم يمنعون من دخول المسجد، ويؤمرون بأن يزيلوا هذه الرائحة بقدر الإمكان ويحضروا إلى المسجد، وليس معنى ذلك: أن نمنعهم من دخول المسجد ونقول: صلوا حيث شئتم! لأننا لو قلنا لهم هذا، لفتحنا لهم أبواب الكسل، لكن نقول: نمنعكم وفي الوقت التالي تنظفون أنفسكم وتحضرون، وبهذا يحصل المطلوب ويزول المكروه، أما إذا كانوا لا يستطيعون القدوم إلا هكذا فيقال لهم: صلوا جماعة في محلكم، ودعوا مساجد الناس للناس. اهـ.
وأما عن صحة الصلاة في مسجدين أو مصليين متجاورين: فإن صلاة جماعتين في مكانين متجاورين لا تأثير له على صحة الصلاة البتة، وهذا في غير صلاة الجمعة، فإنه لا يجوز تعدد صلاة الجمعة بغير مسوغ، وليس من المسوغات وجود روائح كريهة لدى العمال، لما تقدم من أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الأنصار بالاغتسال وحضور الجمعة في ثوبين غير ثوبي المهنة، وليس في ذلك كبير مشقة، لأن الجمعة مرة في الأسبوع، والغالب أن كل الناس يغتسلون لها، بخلاف الفرائض اليومية.
والله أعلم.