الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالسؤال الأول لا يتوجه إلا إذا كانت النفس شيئا مغايرا للإنسان ذاته، وهذا ليس بصحيح، فنفس الإنسان ليست شيئا خارجا عنه، بل هي هو! ولولاها لكان الإنسان جثة، أو صورة ليست محلا للتكليف، ولذلك تطلق النفس على روح الإنسان، وعلى دمه، وعلى بدنه وروحه معا، وراجع الفتاوى التالية أرقامها: 61010، 14694، 97842.
وخلق النفس الإنسانية وتسويتها، آية من آيات الله تعالى التي أقسم بها في كتابه، وتتجلى فيها قدرة الله تعالى وحكمته في خلقه، حيث وُجِدت قابلة للخير والشر، مستعدة للفجور والتقوى، كما قال تعالى: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا. فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا. قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا. وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس: 7 - 10].
قال الشيخ عطية سالم في تتمة أضواء البيان: قالوا: النفس تحمل كامل خلقة الإنسان بجسمه وروحه، وقواه الإنسانية، من تفكير وسلوك. . . إلخ. وقيل: النفس هنا بمعنى القوى المفكرة، المدركة، مناط الرغبة والاختيار .. اهـ.
وقال السعدي: النفس آية كبيرة من آياته، التي -هي- حقيقة بالإقسام بها، فإنها في غاية اللطف والخفة، سريعة التنقل والحركة والتغير والتأثر والانفعالات النفسية، من الهم، والإرادة، والقصد، والحب، والبغض، وهي التي لولاها لكان البدن مجرد تمثال لا فائدة فيه، وتسويتها على هذا الوجه آية من آيات الله العظيمة. اهـ.
ومن معاني هذا الإلهام الإلهي للنفس البشرية: تهيئتها لقبول الخير والشر، واكتساب أي منهما.
قال ابن جزي في التسهيل: أي عرّفها طريق الفجور والتقوى، وجعل لها قوة يصح معها اكتساب أحد الأمرين. اهـ.
وقال البقاعي في (نظم الدرر): إلهامها للأمرين، هو جعله لها عارفة بالخير والشر، مستعدة ومتهيئة لكل منهما. اهـ.
وهذه الخِلقة العجيبة هي التي تجري بها حكمة الله تعالى من خلق الإنسان، وهي ابتلاؤه وامتحانه، ليميز الله الخبيث من الطيب.
قال ابن القيم في (مدارج السالكين): الله سبحانه هيأ الإنسان لقبول الكمال بما أعطاه من الأهلية والاستعداد، التي جعلها فيه كامنة كالنار في الزناد. فألهمه ومكنه، وعرفه وأرشده. وأرسل إليه رسله، وأنزل إليه كتبه؛ لاستخراج تلك القوة التي أهله بها لكماله إلى الفعل. قال الله تعالى: {ونفس وما سواها - فألهمها فجورها وتقواها - قد أفلح من زكاها - وقد خاب من دساها}. فعبر عن خلق النفس بالتسوية، للدلالة على الاعتدال والتمام، ثم أخبر عن قبولها للفجور والتقوى، وأن ذلك نالها منه امتحانا واختبارا. اهـ.
وأما السؤال الثاني، فجوابه أن: للنفس وسوسة مستقلة عن وسوسة الشيطان، فقد يجتمعان وقد يفترقان.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في (منهاج السنة): وكذلك الوسواس في النفس، يكون من الشيطان تارة، ومن النفس تارة؛ قال تعالى: {ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه} [سورة ق: 16]. وقال: {فوسوس إليه الشيطان} [سورة طه: 120] ... اهـ.
وقال في رسالة الزهد والورع والعبادة: وَمَا يحصل من نوع المكاشفة، وَالتَّصَرُّف ثَلَاثَة أَصْنَاف: ملكي، وَنَفْسِي، وشيطاني؛ فَإِن الْملك لَهُ قُوَّة، وَالنَّفس لَهَا قُوَّة، والشيطان لَهُ قُوَّة، وقلب الْمُؤمن لَهُ قُوَّة، فَمَا كَانَ من الْملك وَمن قلب الْمُؤمن فَهُوَ حق، وَمَا كَانَ من الشَّيْطَان ووسوسة النَّفس فَهُوَ بَاطِل. اهـ.
وقال ابن القيم في (إغاثة اللهفان): الوسوسة: حديث النفس والصوت الخفي، وبه سمي صوت الحلي وسواسا، ورجل موسوس بكسر الواو، ولا يفتح فإنه لحن، وإنما قيل له: موسوس؛ لأن نفسه توسوس إليه، قال تعالى: {ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد} [ق: 16]. اهـ.
وقد سبق لنا بيان الفرق بين وسوسة النفس، ووسوسة الشيطان، في الفتوى التي أشارت إليها السائلة برقم: 114571. وراجعي في بيان مراتب النفوس، وفضل مجاهدتها، الفتوى رقم: 191851.
والله أعلم.