الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فأما سؤالك الأول: فلا ريب في أن الأجر على قدر المشقة، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومن عبد الله حيث لا يعينه أحد فهو أعظم أجرا من هذه الحيثية ممن عبد الله حيث يجد من يعينه، قال الحافظ ابن رجب في فوائد قوله صلى الله عليه وسلم: ذاك شهر يغفل عنه الناس ـ وفيه دليل على استحباب عمارة أوقات غفلة الناس بالطاعة، وأن ذلك محبوب لله عز وجل، كما كان طائفة من السلف يستحبون إحياء ما بين العشاءين بالصلاة ويقولون: هي ساعة غفلة، ولذلك فضل القيام في وسط الليل المشمول بالغفلة لأكثر الناس فيه عن الذكر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الليلة فكن ـ ولهذا المعنى كان النبي صلى الله عليه وسلم يريد أن يؤخر العشاء إلى نصف الليل، وإنما علل ترك ذلك لخشية المشقة على الناس، ولما خرج على أصحابه وهم ينتظرونه لصلاة العشاء قال لهم: ما ينتظرها أحد من أهل الأرض غيركم ـ وفي هذا إشارة إلى فضيلة التفرد بذكر الله في وقت من الأوقات لا يوجد فيه ذاكر له، ولهذا ورد في فضل الذكر في الأسواق ما ورد من الحديث المرفوع والآثار الموقوفة؛ حتى قال أبو صالح: إن الله ليضحك ممن يذكره في السوق ـ وسبب ذلك أنه ذكر في موطن الغفلة بين أهل الغفلة، وفي حديث أبي ذر المرفوع: ثلاثة يحبهم الله: قوم ساروا ليلتهم حتى إذا كان النوم أحب إليهم مما يعدل به فوضعوا رؤوسهم فقام أحدهم يتملقني ويتلو آياتي، وقوم كانوا في سرية فانهزموا فتقدم أحدهم فلقي العدو فصبر حتى قتل، وذكر أيضا قوما جاءهم سائل فسألهم فلم يعطوه فانفرد أحدهم حتى أعطاه سرا ـ فهؤلاء الثلاثة انفردوا عن رفقتهم بمعاملة الله سرا بينهم وبينه فأحبهم الله، فكذلك من يذكر الله في غفلة الناس، أو من يصوم في أيام غفلة الناس عن الصيام. انتهى.
وذكر ابن رجب لذلك أسبابا جاء من ضمنها قوله: ومنها: أنه أشق على النفوس: وأفضل الأعمال أشقها على النفوس، وسبب ذلك أن النفوس تتأسى بما تشاهد من أحوال أبناء الجنس، فإذا كثرت يقظة الناس وطاعاتهم كثر أهل الطاعة لكثرة المقتدين بهم فسهلت الطاعات، وإذا كثرت الغفلات وأهلها تأسى بهم عموم الناس فيشق على نفوس المستيقظين طاعاتهم لقلة من يقتدون بهم فيها، ولهذا المعنى قال النبي صلى الله عليه وسلم: للعامل منهم أجر خمسين منكم، إنكم تجدون على الخير أعوانا ولا يجدون ـ وقال: بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء ـ وفي رواية قيل: ومن الغرباء؟ قال: الذين يصلحون إذا فسد الناس ـ وفي صحيح مسلم من حديث معقل بن يسار عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: العباد في الهرج كالهجرة إلي ـ وخرجه الإمام أحمد ولفظه: العباد في الفتنة كالهجرة إلي ـ وسبب ذلك أن الناس في زمن الفتن يتبعون أهواءهم ولا يرجعون إلى دين فيكون حالهم شبيها بحال الجاهلية، فإذا انفرد من بينهم من يتمسك بدينه ويعبد ربه ويتبع مراضيه ويجتنب مساخطه كان بمنزلة من هاجر من بين أهل الجاهلية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤمنا به متبعا لأوامره مجتنبا لنواهيه. انتهى.
فظهر المقصود بوضوح من كلامه ـ رحمه الله ـ وأما حديث: حتى تكون السجدة الواحدة خيرا من الدنيا وما فيها ـ فليس من هذا الباب، بل هو إشارة إلى صلاح الناس زمن نزول عيسى ـ عليه السلام ـ وتقديمهم أمر الآخرة، قال النووي رحمه الله: وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: حَتَّى تَكُونَ السَّجْدَةُ الْوَاحِدَةُ خَيْرًا مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا ـ فَمَعْنَاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ النَّاسَ تَكْثُرُ رَغْبَتُهُمْ فِي الصَّلَاةِ وَسَائِرِ الطَّاعَاتِ لقصر آمالهم وعلمهم بِقُرْبِ الْقِيَامَةِ وَقِلَّةِ رَغْبَتِهِمْ فِي الدُّنْيَا لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَعْنَى الْحَدِيثِ، وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: مَعْنَاهُ أَنَّ أَجْرَهَا خَيْرٌ لِمُصَلِّيهَا مِنْ صَدَقَتِهِ بِالدُّنْيَا وما فيها، لفيض المال حينئذ وهوانه وَقِلَّةِ الشُّحِّ وَقِلَّةِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ لِلنَّفَقَةِ فِي الْجِهَادِ، قَالَ، وَالسَّجْدَةُ هِيَ السَّجْدَةُ بِعَيْنِهَا، أَوْ تَكُونُ عِبَارَةً عَنِ الصَّلَاةِ. انتهى.
وأما بقية أسئلتك: فيرجى إرسال كل منها بشكل مستقل لتتسنى إجابتك عنه كما هي سياسة الموقع.
والله أعلم.