الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فيجب عليكِ أن تنكري على جليساتك ما يمارسنه من الغيبة، وأن تبيني لهن خطرها وعاقبتها الوخيمة، وذلك بالحكمة والموعظة الحسنة على نحو ما بينا في الفتوى رقم: 6710.
ولا يضرك استهزاؤهم بك أو اتهامهم لك بالنفاق، فهذه حيلة شيطانية يمارسها العصاة مع المصلحين في كل عصر، فإن لم يستجبن لك، وظللن في ممارسة الغيبة بعد أن علمن حرمتها، فيجب عليك مغادرة هذا المجلس، لأن استمرارك في الجلوس مع إقامة الأخريات على الغيبة بمثابة رضاك عن ارتكاب هذه المعصية، وعند عدم الاستجابة لنصيحتك يتعين عليك الإنكار بالقلب، ولكن الإنكار بالقلب لا يتم مع مخالطة أهل المنكر في منكرهم، وانظري صفة الإنكار بالقلب في الفتويين رقم: 1048، ورقم: 62001.
وقد بينا في هاتين الفتويين أن إنكار القلب على مرتبتين: أولاهما: الإنكار بالقلب, ومفارقة المكان الذي فيه المنكر, والمرتبة الثانية: الإنكار بالقلب فقط عند العجز عن مفارقة المكان.
فمن قدر على الأولى واكتفى بإنكار القلب فقط فهو آثم، قال الله تعالى: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا {النساء:140}.
قال القرطبي في تفسير هذه الآية: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ـ أَيْ غَيْرِ الْكُفْرِ: إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ ـ فَدَلَّ بِهَذَا عَلَى وُجُوبِ اجْتِنَابِ أَصْحَابِ الْمَعَاصِي إِذَا ظَهَرَ مِنْهُمْ مُنْكَرٌ، لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَجْتَنِبْهُمْ فَقَدْ رَضِيَ فِعْلَهُمْ، وَالرِّضَا بِالْكُفْرِ كُفْرٌ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ ـ فَكُلُّ مَنْ جَلَسَ فِي مَجْلِسِ مَعْصِيَةٍ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ يَكُونُ مَعَهُمْ فِي الْوِزْرِ سَوَاءً، وَيَنْبَغِي أَنْ يُنْكِرَ عَلَيْهِمْ إِذَا تَكَلَّمُوا بِالْمَعْصِيَةِ وَعَمِلُوا بِهَا، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى النَّكِيرِ عَلَيْهِمْ فَيَنْبَغِي أَنْ يَقُومَ عَنْهُمْ حَتَّى لَا يَكُونَ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ أَنَّهُ أَخَذَ قَوْمًا يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ، فَقِيلَ لَهُ عَنْ أَحَدِ الْحَاضِرِينَ: إِنَّهُ صَائِمٌ، فَحَمَلَ عَلَيْهِ الْأَدَبَ وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ ـ أَيْ إِنَّ الرِّضَا بِالْمَعْصِيَةِ مَعْصِيَةٌ، وَلِهَذَا يُؤَاخَذُ الْفَاعِلُ وَالرَّاضِي بِعُقُوبَةِ الْمَعَاصِي حَتَّى يَهْلَكُوا بِأَجْمَعِهِمْ، وَهَذِهِ الْمُمَاثَلَةُ لَيْسَتْ فِي جَمِيعِ الصِّفَاتِ، وَلَكِنَّهُ إِلْزَامٌ شُبِّهَ بِحُكْمِ الظَّاهِرِ مِنَ الْمُقَارَنَةِ، كَمَا قَالَ: فَكُلُّ قَرِينٍ بِالْمُقَارِنِ يَقْتَدِي. انتهى.
ولمزيد فائدة انظري الفتاوى التالية أرقامها: 200675، 201100، 178289.
والله أعلم.