الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن والاه، أما بعد:
فما دمت أنكرت تلك الأغاني المحرمة بلسانك، فلم يمتثلوا، فإنه لا إثم عليك؛ إذ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها.
ويبقى مسألة ركوبك للحافلة مع علمك بتشغيلهم للأغاني، فيقال: إن كنت قادرا على الذهاب للجامعة في غير تلك الحافلة، فإنه يتعين عليك عدم الركوب فيها؛ لأن مفارقة مكان المعصية واجب عند القدرة عليه إذا لم يَزُل المنكر. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى: وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَحْضُرَ مَجَالِسَ الْمُنْكَرِ بِاخْتِيَارِهِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ. اهــ .
وقال القرطبي في تفسير قوله تعالى: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ [النساء: 140]، قال مبينًا مفارقة مكان المعصية: فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى النَّكِيرِ عَلَيْهِمْ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَقُومَ عَنْهُمْ حَتَّى لَا يَكُونَ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الْآيَةِ.. اهـ.
وقال الجصاص في أحكام القرآن: فَإِنْ قِيلَ: فَهَلْ يَلْزَمُ مَنْ كَانَ بِحَضْرَتِهِ مُنْكِرٌ أَنْ يَتَبَاعَدَ عَنْهُ، وَأَنْ يَصِيرَ بِحَيْثُ لَا يَرَاهُ وَلَا يَسْمَعُهُ؟ قِيلَ لَهُ: قَدْ قِيلَ فِي هَذَا أَنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي تَبَاعُدِهِ، وَتَرْكِ سَمَاعِهِ تَرْكُ الْحَقِّ عَلَيْهِ، مِنْ نَحْوِ تَرْكِ الصَّلَاةِ فِي الْجَمَاعَةِ لِأَجْلِ مَا يَسْمَعُ مِنْ صَوْتِ الغناء والملاهي، وترك حضور الجنازة لما معها من النوح، وَتَرْكِ حُضُورِ الْوَلِيمَةِ لِمَا هُنَاكَ مِن اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ. فَإِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، فَالتَّبَاعُدُ عَنْهُمْ أَوْلَى. اهـ.
وإن تعذر عليك الذهاب للجامعة في غير تلك الحافلة، فنرجو أن لا حرج عليك في ركوبها، ولو وضعت شيئا في أذنيك يحول بينك وبين سماعها فهذا أفضل، فقد روى أحمد في المسند وابن حبان في صحيحه -واللفظ لأحمد- عَنْ نَافِعٍ، مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ: سَمِعَ صَوْتَ زَمَّارَةِ رَاعٍ، فَوَضَعَ أُصْبُعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ، وَعَدَلَ رَاحِلَتَهُ عَنِ الطَّرِيقِ، وَهُوَ يَقُولُ: يَا نَافِعُ أَتَسْمَعُ؟ فَأَقُولُ: نَعَمْ، فَيَمْضِي، حَتَّى قُلْتُ: لَا، فَوَضَعَ يَدَيْهِ، وَأَعَادَ رَاحِلَتَهُ إِلَى الطَّرِيقِ، وَقَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَسَمِعَ صَوْتَ زَمَّارَةِ رَاعٍ، فَصَنَعَ مِثْلَ هَذَا.
ولا يلزمك إغلاق الأذن عن السماع، ولا إثم عليكم في مجرد السماع، وهناك فرق بين السماع والاستماع، فالاستماع كما يقول الفقهاء: "هُوَ شَغْلُ السَّمْعِ بِالسَّمَاعِ" والسماع يقع بدون قصد، ولا انتباه، وقد قال النووي في المجموع، فيمن سمع منكرا: فإن قصد إلى سماع المنكر، أثم بذلك. وإن لم يقصد إلى استماعه، بل سمعه من غير قصد، لم يأثم بذلك لخبر نافع – وذكر حديث ابن عمر السابق ذكره ثم قال - فموضع الدليل أن ابن عمر لم ينكر على نافع سماعه. اهــ.
وقال صاحب الفواكه الدواني من كتب المالكية: وَلَا يَحِلُّ لَك أَيْضًا أَنْ تَتَعَمَّدَ سَمَاعَ شَيْءٍ مِنْ الْمَلَاهِي كَالْمِزْمَارِ، وَالطُّنْبُورِ، وَالْعُودِ... اهــ.
والله تعالى أعلم.