الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلا تعارض بين هاتين الفتويين؛ لأنه لا تعارض بين عام وخاص، ولا بين قاعدة واستثناء!
فالأصل العام أن المعاصي المتعلقة بحقوق العباد وظلمهم، لا بد فيها من مجازاة، بالقصاص أو غيره، والقصاص يوم القيامة يكون بالحسنات والسيئات، كما قال تعالى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء: 47].
وعن عائشة أن رجلا قعد بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن لي مملوكين يكذبونني، ويخونونني، ويعصونني، وأشتمهم وأضربهم، فكيف أنا منهم؟ قال: يحسب ما خانوك وعصوك وكذبوك، وعقابك إياهم، فإن كان عقابك إياهم بقدر ذنوبهم كان كفافا، لا لك ولا عليك، وإن كان عقابك إياهم دون ذنوبهم، كان فضلا لك، وإن كان عقابك إياهم فوق ذنوبهم، اقتص لهم منك الفضل. قال: فتنحى الرجل فجعل يبكي ويهتف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما تقرأ كتاب الله: {ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال} الآية. فقال الرجل: والله يا رسول الله ما أجد لي ولهم شيئا خيرا من مفارقتهم، أشهدك أنهم أحرار كلهم. رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني.
وقد ذكر ابن كثير في تفسير هذه الآية حديث جابر بن عبد الله، وعبد الله بن أنيس مرفوعا: يحشر الله عز وجل الناس يوم القيامة عراة، غرلا، بُهْماً. قلت: وما بُهْما؟ قال: ليس معهم شيء. ثم يناديهم بصوت يسمعه من بعد، كما يسمعه من قرب: أنا الملك، أنا الديان، لا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار، وله عند أحد من أهل الجنة حق، حتى أقصه منه، ولا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة، وله عند رجل من أهل النار حق، حتى أقصه منه حتى اللطمة. قال: قلنا: كيف، وإنما نأتي الله عز وجل حفاة عراة غرلا بُهما؟ قال: بالحسنات والسيئات. رواه أحمد والبخاري في الأدب المفرد، وحسنه الألباني.
وقد تكاثرت الأدلة على هذا المعنى، وبوب البخاري في كتاب الرقاق من صحيحه: (باب القصاص يوم القيامة) وأسند تحته حديث أبي هريرة مرفوعا: من كانت عنده مظلمة لأخيه، فليتحلله منها، فإنه ليس ثم دينار ولا درهم، من قبل أن يؤخذ لأخيه من حسناته، فإن لم يكن له حسنات، أخذ من سيئات أخيه فطرحت عليه.
وحديث أبي سعيد مرفوعا: يخلص المؤمنون من النار، فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار، فيقص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هذبوا ونقوا، أذن لهم في دخول الجنة.
فهذا هو الأصل العام، الذي أشارت إليه الفتوى رقم: 3944.
وأما الاستثناء الخاص، فهو أن الله تعالى قد يُرضي المظلوم يوم القيامة، ويعوضه عن مظلمته، ويعفو عن الظالم، لحكمة يعلمها سبحانه، فقد يتوب الظالم ولا يدرك المظلومَ ليستحل منه، أو يرد له حقه، أو يمكنه من القصاص، وقد يكون له من سابقة الخير والأعمال الصالحة ما يؤهله لرحمة الله تعالى، وأن يتحمل عنه التبعات يوم القيامة، وقد يكون غير ذلك.
وعلى أية حال، فإن المظلوم يوفى حقه كاملا غير منقوص، كما دلت عليه النصوص السابقة، وإنما الكلام في مجازاة الظالم، فالأصل في ذلك المقاصة، وقد يتجاوز الله تعالى عن الظالم تبعاته، ويعوض المظلوم بما يرضيه. ولذلك جاء في الفتوى رقم: 247834، أن حق المخلوق لا يتركه الله تعالى، فإما أن يعفو المخلوق عن حقه في الدنيا أو الآخرة، وإما أن يرضي الله ذلك المظلوم يوم القيامة حتى يعفو عمن ظلمه، وإما أن يقع القصاص.
ونقلنا في ذلك قول المناوي في التيسير: لا بد أَن يُطَالب بهَا حَتَّى يَقع الْقصاص، وَهَذَا هُوَ الْغَالِب، وَقد يرضى بعض الْخُصُوم، كَمَا فِي خبر... اهــ.
وأشرنا إلى أنه أراد بالخبر: الحديث الذي ذكره السائل في سؤاله، والذي سبق أن ضعفناه في الفتوى رقم: 134615، وكذلك قلنا في الفتوى الأخرى: 247834: "وقد جاء في حديث ضعيف السند - ولعله الذي أشار إليه المناوي بقوله: كما في خبر -".
وبهذا يتبين أننا نصصنا على ضعف الحديث، وفصلنا في المسألة، وقلنا هناك: "إن الله تعالى قد يتجاوز عن كل الذنوب ولو كانت متعلقة بحق المخلوق، وذلك حين يُرضيه يوم القيامة ليتنازل عن أخيه فيعفو عن هذا، ويعوض هذا، لكمال عدله، وعظيم رحمته".
ولمزيد البيان، ننقل كلام الحافظ ابن حجر في فتح الباري، حيث قال: هذا في حقوق الله باتفاق أهل السنة. وأما حقوق العباد فيشترط ردها عند الأكثر. وقيل: بل هو كالأول، ويثيب الله صاحب الحق بما شاء. اهـ.
وقد عقد البيهقي في شعب الإيمان فصلا في القصاص من المظالم، أسند فيه حديث أبي سعيد السابق، ثم قال: هذا يحتمل أن يكون المراد به حتى إذا هذبوا ونقوا، بأن يرضى عنهم خصماؤهم، ورضاهم قد يكون بالاقتصاص كما مضى في حديث أبي هريرة، وقد يكون بأن يثيب الله المظلوم خيرا من مظلمته، ويعفو عن الظالم برحمته. وقد روي فيه -وأسند حديث عباس بن مرداس- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا عشية عرفة لأمته بالمغفرة، والرحمة، فأكثر الدعاء، فأوحى الله إليه أني قد فعلت، إلا ظلم بعضهم بعضا، وأما ذنوبهم فيما بينهم وبيني قد غفرتها، فقال: "يا رب، إنك قادر على أن تثيب هذا المظلوم خيرا من مظلمته، وتغفر لهذا الظالم" فلم يجبه ذلك العشية، فلما كان غداة المزدلفة أعاد الدعاء، فأجابه: إني قد غفرت لهم. قال: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له بعض أصحابه: يا رسول الله، تبسمت في ساعة لم تكن تتبسم فيها، قال: " تبسمت من عدو الله إبليس، أنه لما علم أن الله تعالى قد استجاب لي في أمتي أهوى يدعو بالويل، والثبور، ويحثو التراب على رأسه". قال البيهقي: وهذا الحديث له شواهد كثيرة، وقد ذكرناها في كتاب البعث، فإن صح بشواهده، ففيه الحجة، وإن لم يصح فقد قال الله عز وجل: {ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء: 48]، وظلم بعضهم بعضا دون الشرك ...
والاقتصاص قد يكون بالتعذيب على ما طرح عليه من سيئات خصمه، وحبط من أجر حسناته، فيبقى مرتهنا بسيئاته وسيئات خصمه، وقد يثيب الله تعالى المظلوم ويعفو عن الظالم إن صح الخبر الوارد به، أما التغرير بالنفس فما لا يرضاه عاقل، ومن لا يصبر على وجع سن وحمى يوم: فحقيق أن يحترز من أمر يعرضه لعذاب وجيع وعقاب أليم، لا يعلم شدته ولا نهايته إلا الله عز وجل. اهـ.
وبهذا يتبين ضعف عقول وأفهام من يعتمدون على هذا المعنى، في إرجاء التوبة، وعدم إرجاع الحقوق لذويها!!
والله أعلم.