الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن مجرد السجود لبشر بقصد التحية لا العبادة محرم وكبيرة في شريعتنا، وليس بكفر أكبر عند عامة العلماء، وبخلاف السجود للصنم فهو كفر مخرج من الملة، جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية: أجمع الفقهاء على أن السجود للصنم أو للشمس أو نحوهما من المخلوقات كفر يخرج الساجد به عن الملة إذا كان عاقلا بالغا مختارا، سواء كان عامدا أو هازلا. وصرح الشافعية بأنه إن لم يسجد للصنم أو للشمس على سبيل التعظيم واعتقاد الألوهية، بل سجد لها وقلبه مطمئن بالإيمان يجري عليه حكم الكفار في الظاهر، ولا يحكم بكفره فيما بينه وبين الله، وإن دلت قرينة قوية على عدم دلالة الفعل على الاستخفاف، كسجود أسير في دار الحرب بحضرة كافر خشية منه فلا يكفر. * كما أجمعوا على أن السجود لغير صنم ونحوه، كأحد الجبابرة أو الملوك أو أي مخلوق آخر هو من المحرمات وكبيرة من كبائر الذنوب، فإن أراد الساجد بسجوده عبادة ذلك المخلوق كفر وخرج عن الملة بإجماع العلماء، وإن لم يرد بها عبادة فقد اختلف الفقهاء فقال بعض الحنفية: يكفر مطلقا سواء كانت له إرادة أو لم تكن له إرادة، وقال آخرون منهم: إذا أراد بها التحية لم يكفر بها، وإن لم تكن له إرادة كفر عند أكثر أهل العلم. اهـ.
ويتبين الفرق بين السجود للصنم وسجود التحية للوالد ونحوه: بمعرفة تعليل الفقهاء لكون السجود للصنم كفرا، وذلك أن السجود للصنم اختيارا لا يصدر إلا عن استهزاء بالدين أو جحود له، بخلاف سجود التحية والتعظيم للوالد ونحوه.
قال الكفوي الحنفي في الكليات: والفعل الموجبُ للكفر هو الذي يصدر عن تعمُّدٍ ويكون الاستهزاء صريحاً بالدِّين، كالسُّجود للصَّنَم .اهـ. وفي شرح المحلي على المنهاج: ( وَالْفِعْلُ الْمُكَفِّرُ مَا تَعَمَّدَهُ اسْتِهْزَاءً صَرِيحًا بِالدِّينِ أَوْ جُحُودًا لَهُ كَإِلْقَاءِ مُصْحَفٍ بِقَاذُورَةٍ ) بِإِعْجَامِ الذَّال ( وَسُجُودٍ لِصَنَمٍ أَوْ شَمْسٍ ) فَكُلٌّ مِنْ الثَّلاثَةِ نَاشِئٌ عَنْ اسْتِهْزَاءٍ بِالدِّينِ أَوْ جُحُودٍ لَهُ وَاقْتَصَرَ فِي الرَّوْضَةِ كَأَصْلِهَا عَلَى الاسْتِهْزَاءِ وَمَثَّلَ بِهَا. اهـ.
وجاء في الإعلام بقواطع الإسلام للهيتمي: ومنها -أي ما يوقع في الكفر- : كل فعل صدر عن تعمد واستهزاء بالدّين صريح، كالسجود للصنم أو الشمس، سواء كان في دار الحرب أم دار الإسلام، بشرط أن لا تقوم قرينة على عدم استهزائه وعذره، وما في الحلية عن القاضي عن النص أن المسلم لو سجد للصنم في دار الحرب لا نحكم بردته، ضعيف، وواضح أن الكلام في المختار. واستشكل العز بن عبد السلام الفرق بين السجود للصنم وبين ما لو سجد الولد لوالده على جهة التعظيم حيث لا يكفر, والسجود للوالد كما يقصد به التقرب إلى الله تعالى كذلك يقصد بالسجود للصنم، كما قال تعالى: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ) الزمر/3. ولا يمكن أن يقال: إن الله شرع ذلك في حق العلماء والآباء دون الأصنام.
قال القرافي في قواعده: كان الشيخ يستشكل هذا المقام ويعظم الإشكال فيه، ونقل هذا الإشكال الزركشي وغيره، ولم يجيبوا عنه، ويمكن أن يجاب عنه بأن الوالد وردت الشريعة بتعظيمه, بل ورد شرع غيرنا بالسجود للوالد؛ كما في قوله تعالى: (وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا) يوسف/100، بناء على أن المراد بالسجود ظاهره، وهو وضع الجبهة على الأرض كما مشى عليه جمع. وأجابوا عنه بأنه كان شرعا لمن قبلنا, ومشى آخرون على أن المراد به الانحناء, وعلى كل فهذا الجنس قد ثبت للوالد ولو في زمن من الأزمان أو شريعة من الشرائع, فكان شبهة دارئة للكفر عن فاعله، بخلاف السجود لنحو الصنم أو الشمس فإنه لم يرد هو ولا ما شابهه في التعظيم في شريعة من الشرائع, فلم يكن لفاعل ذلك شبهة لا ضعيفة ولا قوية فكان كافراً، ولا نظر لقصده التقرب فيما لم ترد الشريعة بتعظيمه بخلاف من وردت بتعظيمه, فاندفع الإشكال واتضح الجواب عنه كما لا يخفى. اهـ. وانظر الفتوى : 126101 .
وأما سؤالك عن قضية الذبح فهي مسألة أخرى مستقلة، فراسلنا بها في رسالة أخرى، لأننا بيّنّا في خانة إدخال الأسئلة، أنه لا يسمح إلا بإرسال سؤال واحد فقط في المساحة المعدة لذلك، وأن الرسالة التي تحوي أكثر من سؤال، سيتم الإجابة عن السؤال الأول منها، وإهمال بقية الأسئلة.
والله أعلم.