الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فليس من سياستنا في الموقع الرد، أو التعقيب على مقالات وفتاوى الآخرين. وإنما نبين ما نرى أنه الحكم الشرعي، فنعتذر للأخ السائل عن الرد على ذلك المقال.
وقد سبق أن بينا في الفتوى رقم: 135810 أن ادخار المال لا يعد كنزا محرما إذا أدى صاحبُه زكاته، وهذا قول جمهور العلماء من الصحابة والتابعين وتابعيهم، وذهب بعضهم إلى أنه كنزٌ وإن أخرج زكاته، وهذه من المسائل الخلافية التي تتسع لها الصدور.
جاء في الموسوعة الفقهية: وَإِنْ كَانَتِ الأْمْوَال الْمُدَّخَرَةُ أَكْثَرَ مِنَ النِّصَابِ، وَصَاحِبُهَا يُؤَدِّي زَكَاتَهَا، وَهِيَ فَائِضَةٌ عَنْ حَاجَاتِهِ الأْصْلِيَّةِ، فَقَدْ وَقَعَ الْخِلاَفُ فِي حُكْمِ ادِّخَارِهَا: فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ إِلَى جَوَازِهِ، وَمِنْهُمْ عُمَرُ وَابْنُهُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ وَجَابِرٌ. وَيُسْتَدَل لِمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ بِآيَاتِ الْمَوَارِيثِ؛ لأِنَّ اللَّهَ جَعَل فِي تَرِكَةِ الْمُتَوَفّى أَنْصِبَاءَ لِوَرَثَتِهِ، وَهَذَا لاَ يَكُونُ إِلاَّ إِذَا تَرَكَ الْمُتَوَفُّونَ أَمْوَالاً مُدَّخَرَةً، كَمَا يُسْتَدَل لَهُمْ بِحَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ الْمَشْهُورِ: إِنَّكَ إِنْ تَدَعْ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ فِي أَيْدِيهِمْ. وَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّ ادِّخَارَ شَيْءٍ لِلْوَرَثَةِ، بَعْدَ أَدَاءِ الْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ الْوَاجِبَةِ مِنْ زَكَاةٍ وَغَيْرِهَا، خَيْرٌ مِنْ عَدَمِ التَّرْكِ.
وَذَهَبَ أَبُو ذَرٍّ الْغِفَارِيُّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- إِلَى أَنَّ ادِّخَارَ الْمَال الزَّائِدِ عَنْ حَاجَةِ صَاحِبِهِ -مِنْ نَفَقَتِهِ وَنَفَقَةِ عِيَالِهِ- هُوَ ادِّخَارٌ حَرَامٌ، وَإِنْ كَانَ يُؤَدِّي زَكَاتَهُ. وَكَانَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يُفْتِي بِذَلِكَ، وَيَحُثُّ النَّاسَ عَلَيْهِ، فَنَهَاهُ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- وَكَانَ أَمِيرًا عَلَى الشَّامِ- عَنْ ذَلِكَ؛ لأِنَّهُ خَافَ أَنْ يَضُرَّهُ النَّاسُ فِي هَذَا، فَلَمْ يَتْرُكْ دَعْوَةَ النَّاسِ إِلَى ذَلِكَ، فَشَكَاهُ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، فَاسْتَقْدَمَهُ عُثْمَانُ إِلَى الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ، وَأَنْزَلَهُ الرَّبَذَةَ، فَبَقِيَ فِيهَا إِلَى أَنْ تَوَفَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى. اهـ.
وقال القرطبي في تفسير قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ {التوبة:34}.
قال: أَسْنَدَ الطَّبَرِيُّ إِلَى أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ، قَالَ: مَاتَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ، فَوُجِدَ فِي بُرْدَتِهِ دِينَارٌ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (كَيَّةٌ). ثُمَّ مَاتَ آخَرُ، فَوُجِدَ لَهُ دِينَارَانِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (كَيَّتَانِ). وَهَذَا إِمَّا لِأَنَّهُمَا كَانَا يَعِيشَانِ مِنَ الصَّدَقَةِ وَعِنْدَهُمَا التِّبْرُ، وَإِمَّا لِأَنَّ هَذَا كَانَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ قَرَّرَ الشَّرْعُ ضَبْطَ الْمَالِ وَأَدَاءَ حَقِّهِ. وَلَوْ كَانَ ضَبْطُ الْمَالِ مَمْنُوعًا، لَكَانَ حَقُّهُ أَنْ يُخْرَجَ كُلُّهُ، وَلَيْسَ فِي الْأُمَّةِ مَنْ يُلْزَمُ هَذَا. وَحَسْبُكَ حَالُ الصَّحَابَةِ وَأَمْوَالُهُمْ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ. وَأَمَّا مَا ذُكِرَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ، فَهُوَ مَذْهَبٌ لَهُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَقَدْ رَوَى مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ أَبِي أَنَسٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ جَمَعَ دينارا أو درهما أَوْ تِبْرًا أَوْ فِضَّةً، وَلَا يَعُدُّهُ لِغَرِيمٍ وَلَا يُنْفِقُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَهُوَ كَنْزٌ يُكْوَى بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
قُلْتُ: هَذَا الَّذِي يَلِيقُ بِأَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنْ يَقُولَ بِهِ، وَأَنَّ مَا فَضَلَ عَنِ الْحَاجَةِ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ إِذَا كَانَ مُعَدًّا لِسَبِيلِ اللَّهِ. وَقَالَ أَبُو أُمَامَةَ: مَنْ خَلَّفَ بِيضًا أَوْ صُفْرًا كُوِيَ بِهَا، مَغْفُورًا لَهُ أَوْ غَيْرَ مَغْفُورٍ لَهُ، أَلَا إِنَّ حِلْيَةَ السَّيْفِ مِنْ ذَلِكَ. وَرَوَى ثَوْبَانُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَا مِنْ رَجُلٍ يَمُوتُ وَعِنْدَهُ أَحْمَرُ أَوْ أَبْيَضُ، إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ لَهُ بِكُلِّ قِيرَاطٍ صَفِيحَةً يُكْوَى بِهَا مِنْ فَرْقِهِ، إِلَى قَدَمِهِ، مَغْفُورًا لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ مُعَذَّبًا.
قُلْتُ: وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى مَا لَمْ تُؤَدَّ زَكَاتُهُ، بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَا فِي الْآيَةِ قَبْلَ هَذَا. فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: وَعِنْدَهُ أَحْمَرُ أَوْ أَبْيَضُ لَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ. وَكَذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: مَنْ تَرَكَ عَشَرَةَ آلَافٍ، جُعِلَتْ صَفَائِحَ يُعَذَّبُ بِهَا صَاحِبُهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ. أَيْ إِنْ لَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهَا، لِئَلَّا تَتَنَاقَضَ الْأَحَادِيثُ. اهـ.
والله تعالى أعلم.