الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن تعذر الجمع بين طاعة الأم والأب وبرهما، فإن المقدَّم عند جمهور العلماء هو حق الأم، وأدلة ذلك قد ذكرها السائل في سؤاله على لسان أمه. ولذلك قال الصنعاني في شرح الجامع الصغير: إن قلت: إذا كان فعلا يحزن أحدهما دون الآخر -يعني الأم والأب-؟ قلت: يتركه؛ لأنه مأمور ببرهما. فإن بر الأم دون الأب جاز فعله؛ لأن حق الأم آكد. اهـ.
وقال ابن بطال وابن الملقن كلاهما في شرح صحيح البخاري: روي عن مالك أن رجلا قال له: إن أبي في بلاد السودان، وقد كتب إلي أقدم عليه، وأمي تمنعني من ذلك. فقال: أطع أباك، ولا تعص أمك! فدل قول مالك هذا أن برهما عنده متساويا، ولا فضل لواحد منهما فيه على صاحبه، لكنه قد أمره بالتخلص منهما جميعا، وإن كان لا سبيل له إلى ذلك في هذه المسألة، ولو كان لأحدهما عنده فضل في البر على صاحبه لأمره بالمصير إلى أمره. وقد سئل الليث عن هذه المسألة فأمره بطاعة الأم، وزعم أن لها ثلثي البر، وحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- يدل أن لها ثلاثة أرباع البر، وأن طاعة الأم مقدمة، وهو الحجة على من خالفه. اهـ.
وقال القاضي عياض في إكمال المعلم: اختلف العلماء فيما بين الأب والأم، فقيل: يجب أن يكون برهما سواء، وتأول أن هذا اختيار مالك ومذهبه. وروى الليث أن حق الأم آكد، وأن لها ثلثي البر. وذكر المحاسبي أن تفضيل الأم على الأب في البر، إجماع العلماء. اهـ.
وقال ابن حجر في فتح الباري: وقعت الإشارة إلى ذلك في قوله تعالى: ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين. فسوى بينهما في الوصاية، وخص الأم بالأمور الثلاثة.
قال القرطبي: المراد أن الأم تستحق على الولد الحظ الأوفر من البر، وتقدم في ذلك على حق الأب عند المزاحمة.
وقال عياض: وذهب الجمهور إلى أن الأم تفضل في البر على الأب. وقيل: يكون برهما سواء. ونقله بعضهم عن مالك، والصواب الأول.
قلت: إلى الثاني ذهب بعض الشافعية، لكن نقل الحارث المحاسبي الإجماع على تفضيل الأم في البر. وفيه نظر، والمنقول عن مالك ليس صريحا في ذلك. اهـ.
وقال النووي في شرح حديث أبي هريرة: فيه الحث على بر الأقارب، وأن الأم أحقهم بذلك، ثم بعدها الأب، ثم الأقرب فالأقرب. قال العلماء: وسبب تقديم الأم كثرة تعبها عليه، وشفقتها وخدمتها، ومعاناة المشاق في حمله ثم وضعه، ثم إرضاعه، ثم تربيته وخدمته وتمريضه. اهـ.
وجاء في فتاوى اللجنة الدائمة: الأم مقدمة في البر على الأب؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل: «من أحق الناس بحسن صحابتي؟ فقال: أمك قال: ثم من؟ قال: أمك قال: ثم من؟ قال: أمك قال: ثم من؟ قال: أبوك» متفق عليه، فقدمها صلى الله عليه وسلم على سائر القرابة، وكرر ذكرها ثلاثا. اهـ.
وراجع لمزيد الفائدة، الفتاوى التالية أرقامها: 33419، 27653، 65064.
ويتأكد ما سبق بمراعاة الحال التي ذكرها السائل، فإن أمه تمنعه من السفر مع أبيه، لأسباب وجيهة وظاهرة، ومعتبرة شرعا، في حين أن الأب غير مضطر للسفر أصلا، ولا لشراء ما يريد شراءه في بلده.
والله أعلم.