الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فأكثر الناس تتحكم في تصوراتهم: ظروفهم الشخصية، ونشأتهم، وبيئتهم، فضلًا عن أهوائهم، وأذواقهم الخاصة! دون أن ينظروا تفاصيل المصالح، والوضع الإجمالي للمنافع، فضلًا عن أن يدركوا حِكَم المقادير.
وأما الله تعالى فقد أحاط بكل شيء علمًا، وخلق كل شيء فأحكمه قدرًا، وهو سبحانه الذي لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الشورى:12].
فقسّم سبحانه بين الناس أرزاقهم، ومعايشهم، ورفع بعضهم فوق بعض درجات، وفضّل بعضهم على بعض في الرزق؛ ابتلاء، وامتحانًا، واستخراجًا لشكر الشاكرين، وصبر الصابرين، وهذه حقيقة قرّرها القرآن في مواضع كثيرة، كما قال تعالى: وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ {النحل:71}، وقال عز وجل: نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا {الزخرف:32}.
قال العلامة الشنقيطي في (أضواء البيان): قد أوضح - تعالى- حكمة هذا التفاضل، والتفاوت في الأرزاق، والحظوظ، والقوة والضعف، ونحو ذلك بقوله هنا: {ليتخذ بعضهم بعضا سخريًّا} .. ومعنى تسخير بعضهم لبعض: خدمة بعضهم البعض، وعمل بعضهم لبعض؛ لأن نظام العالم في الدنيا يتوقف قيامه على ذلك، فمن حكمته -جل وعلا- أن يجعل هذا فقيرًا، مع كونه قويًّا قادرًا على العمل، ويجعل هذا ضعيفًا لا يقدر على العمل بنفسه، ولكنه -تعالى- يهيئ له دراهم يؤجر بها ذلك الفقير القويّ، فينتفع القويّ بدراهم الضعيف، والضعيف بعمل القويّ، فتنتظم المعيشة لكل منهما، وهكذا. اهـ.
وقال أيضًا: وقد بيّن - جل وعلا- في بعض الآيات حكمة تضييقه للرزق على من ضيّقه عليه. وذكر أن من حكم ذلك أن بسط الرزق للإنسان، قد يحمله على البغي، والطغيان، كقوله تعالى: {ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء إنه بعباده خبير بصير}، وقوله تعالى: {كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى}. اهـ.
وقال في موضع آخر: دلّت هذه الآيات الكريمة ... على أن تفاوت الناس في الأرزاق، والحظوظ، سنة من سنن الله السماوية الكونية القدرية، لا يستطيع أحد من أهل الأرض البتة تبديلها، ولا تحويلها، بوجه من الوجوه، فلن تجد لسنة الله تبديلًا، ولن تجد لسنة الله تحويلًا؛ وبذلك تحقق أن ما يتذرع به الآن الملاحدة، المنكرون لوجود الله، ولجميع النبوات، والرسائل السماوية- إلى ابتزاز ثروات الناس، ونزع ملكهم الخاص عن أملاكهم، بدعوى المساواة بين الناس في معايشهم- أمر باطل، لا يمكن بحال من الأحوال، مع أنهم لا يقصدون ذلك الذي يزعمون، وإنما يقصدون استئثارهم بأملاك جميع الناس؛ ليتمتعوا بها، ويتصرفوا فيها كيف شاؤوا، تحت ستار كثير من أنواع الكذب، والغرور، والخداع، كما يتحققه كل عاقل، مطلع على سيرتهم، وأحوالهم مع المجتمع في بلادهم، فالطغمة القليلة الحاكمة، ومن ينضم إليها، هم المتمتعون بجميع خيرات البلاد، وغيرهم من عامة الشعب محرومون من كل خير، مظلومون في كل شيء، حتى ما كسبوه بأيديهم، يعلفون ببطاقة كما تعلف البغال والحمير. وقد علم الله -جل وعلا- في سابق علمه أنه يأتي ناس يغتصبون أموال الناس بدعوى أن هذا فقير وهذا غني، وقد نهى -جل وعلا- عن اتباع الهوى بتلك الدعوى، وأوعد من لم ينته عن ذلك، بقوله تعالى: {إن يكن غنيًّا أو فقيرًا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرًا} [النساء:135]، وقوله: {فإن الله كان بما تعملون خبيرًا}، فيه وعيد شديد لمن فعل ذلك. اهـ.
ونقل الشيخ عطية سالم في (تتمة أضواء البيان) كلام شيخه السابق، ثم قال: والحق أن الأرزاق قسمة الخلاق، فهو أرأف بالعباد من أنفسهم، وليس في خزائنه من نقص، ولكنها الحكمة لمصلحة عباده، وفي الحديث القدسي: «إن من عبادي لمن يصلح له الفقر، ولو أغنيته لفسد حاله، وإن من عبادي لمن يصلح له الغنى، ولو أفقرته لفسد حاله»، فهو سبحانه يعطي بقدر، ولا يمسك عن قتر. ويكفي في هذا المقام سياق الآية الكريمة التي تكلم الشيخ -رحمة الله تعالى- عليه في أسلوبها، في قوله تعالى: {نحن قسمنا}، وهذا الضمير معلوم أنه للتعظيم، والتفخيم، ومثله الضمير في: {قسمنا}، فلا مجال لتدخل المخلوق، ولا مكان لغير الله تعالى في ذلك. والقسمة إذا كانت من الله تعالى، فلا تقوى قوة في الأرض على إبطالها، ثم إن واقع الحياة يؤيد ذلك، بل ويتوقف عليه، كما قال تعالى: {ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريًّا}. اهـ.
وقال ابن عادل في اللباب في علوم الكتاب عند قوله تعالى: وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ {النحل:71}، قال: هذا اعتبار بحال أخرى من أحوال الإنسان؛ لأنا نرى أكيس الناس، وأكثرهم عقلًا، يفني عمره في طلب القدر القليل من الدنيا، ولا يتيسر له ذلك، ونرى أجلاف الناس، وأقلهم عقلًا وفهمًا، ينفتح عليه أبواب الدنيا، وكل شيء خطر بباله، أو دار في خياله، فإنه يحصل له في الحال، ولو كان السبب هو جهد الإنسان وعقله؛ لوجب أن يكون العاقل أفضل في هذه الأحوال، فلما رأينا أن الأعقل الأفضل أقل نصيبًا، والأجهل الأخس أوفر نصيبًا - علمنا أن ذلك بسبب قسمة القسام؛ كما قال -تعالى-: {نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا}، وهذا التفاوت غير مختص بالمال، بل حاصل في الذكاء والبلادة، والحسن والقبح، والعقل والحمق، والصحة والسقم، وغير ذلك. اهـ.
وعلى أية حال؛ فالسائل يحتاج إلى قراءة كتاب عن الاقتصاد الإسلامي وخصائصه، وما تميز به عن غيره، ومقارنته بالمذاهب الوضعية الفاسدة، كالاشتراكية.
وللفائدة عن ذلك، يمكن الاطلاع على الفتاوى التالية أرقامها: 127342، 160241، 226612.
والله أعلم.