الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فالحد يثبت إما بالبينة، وهي شهادة الشهود، وهم أربعة عدول في الزنى، واللواط، وشاهدان عدلان في شرب الخمر، ونحوه، وإما بالإقرار.
فمتى ثبت الحد، وجب على الحاكم إقامته.
والمشروع له تلقين العاصي إذا جاء مقرًّا، فربما رجع عن إقراره، فترك وشأنه، ولا يشرع له ما ذكرت من الضغط عليه حتى يقرّ، بل عكس ذلك هو المشروع، كما ذكرنا؛ لأن الشريعة قائمة على الستر، ودرء الحدود ما أمكن، قال البهوتي في كشاف القناع: ولا بأس بتلقين السارق ليرجع عن إقراره) لما تقدم من تعريضه - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «ما إخالك سرقت»، وعن علي: أنه أتي برجل، فسأله: أسرقت؟ قال: لا، فتركه". ونحوه عن أبي بكر الصديق، وأبي هريرة، وابن مسعود، وأبي الدرداء (و) لا بأس (بالشفاعة فيه) أي: السارق (إذا لم يبلغ الإمام) لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «تعافوا الحدود، فما بلغني من حد وجب» (فإذا بلغه حرمت الشفاعة) وقبولها (ولزم القطع) وكذا سائر الحدود؛ لما تقدم في قصة المخزومية. انتهى.
وصرح الفقهاء بأنه يستحب للحاكم التعريض لمن أقرّ حتى يرجع عن إقراره، فالشرع لا يتشوف لإقامة الحدود، وإنما يتشوف للستر، وتعافي الحدود ما أمكن، قال الموفق ابن قدامة -رحمه الله- في المغني: وَيُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ، أَوْ الْحَاكِمِ الَّذِي يَثْبُتُ عِنْدَهُ الْحَدُّ بِالْإِقْرَارِ، التَّعْرِيضُ لَهُ بِالرُّجُوعِ إذَا تَمَّ، وَالْوُقُوفُ عَنْ إتْمَامِهِ، إذَا لَمْ يُتِمَّ، كَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَعْرَضَ عَنْ مَاعِزٍ حِينَ أَقَرَّ عِنْدَهُ، ثُمَّ جَاءَهُ مِنْ النَّاحِيَةِ الْأُخْرَى، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، حَتَّى تَمَّمَ إقْرَارَهُ أَرْبَعًا، ثُمَّ قَالَ: «لَعَلَّك قَبَّلْت، لَعَلَّك لَمَسْت». وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ لِلَّذِي أَقَرَّ بِالسَّرِقَةِ: «مَا إخَالُك فَعَلْت». رَوَاهُ سَعِيدٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ خَصِيفَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ ثَوْبَانَ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي كَبْشَةَ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، أَنَّهُ أُتِيَ بِجَارِيَةٍ سَوْدَاءَ سَرَقَتْ، فَقَالَ لَهَا: أَسَرَقْت؟ قُولِي: لَا. فَقَالَتْ: لَا. فَخَلَّى سَبِيلَهَا.
وَلَا بَأْسَ أَنْ يَعْرِضَ بَعْضُ الْحَاضِرِينَ لَهُ بِالرُّجُوعِ، أَوْ بِأَنْ لَا يُقِرَّ. وَرَوَيْنَا عَنْ الْأَحْنَفِ أَنَّهُ كَانَ جَالِسًا عِنْدَ مُعَاوِيَةَ، فَأُتِيَ بِسَارِقٍ، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: أَسَرَقْت؟ فَقَالَ لَهُ بَعْضُ الشُّرْطَةِ: اُصْدُقْ الْأَمِيرَ. فَقَالَ الْأَحْنَفُ: الصِّدْقُ فِي كُلِّ الْمَوَاطِنِ مُعْجِزَةٌ. فَعَرَّضَ لَهُ بِتَرْكِ الْإِقْرَارِ. وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّهُ قَالَ: لَا يُقْطَعُ ظَرِيفٌ. يَعْنِي بِهِ أَنَّهُ إذَا قَامَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ، ادَّعَى شُبْهَةً تَدْفَعُ عَنْهُ الْقَطْعَ، فَلَا يُقْطَعُ.
وَيُكْرَهُ لِمَنْ عَلِمَ أَنْ يَحُثَّهُ عَلَى الْإِقْرَارِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِهَزَّالٍ، وَقَدْ كَانَ قَالَ لِمَاعِزٍ: بَادِرْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ فِيك قُرْآنٌ: أَلَّا سَتَرْتَهُ بِثَوْبِك، كَانَ خَيْرًا لَك» رَوَاهُ سَعِيدٌ. وَرَوَى بِإِسْنَادِهِ أَيْضًا، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، قَالَ: «جَاءَ مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَقَالَ لَهُ: إنَّهُ أَصَابَ فَاحِشَةً. فَقَالَ لَهُ: أَخْبَرْت بِهَذَا أَحَدًا قَبْلِي. قَالَ: لَا. قَالَ: فَاسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ، وَتُبْ إلَى اللَّهِ، فَإِنَّ النَّاسَ يُعَيِّرُونَ وَلَا يُغَيِّرُونَ، وَاَللَّهُ يُغَيِّرُ وَلَا يُعَيِّرُ، فَتُبْ إلَى اللَّهِ، وَلَا تُخْبِرْ بِهِ أَحَدًا. فَانْطَلَقَ إلَى أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ عُمَرُ، فَلَمْ تُقِرَّهُ نَفْسُهُ، حَتَّى أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ. انتهى.
والله أعلم.