الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فلا شك في أن ما ذكرته عن والديك أمر غريب أشد الغرابة، فإن صح هذا الكلام عنهما فهما قد خالفا الشرع، وعطلا العقل، وجانبا الفطرة السليمة، فالمفترض فيهما الشفقة والرحمة بالولد، والحرص على كل ما فيه مصلحته وتجنيبه الأذى والشر لا العكس.
وهما بهذه التصرفات قد جعلاك في امتحان حقيقي، والدنيا دار ابتلاء وامتحان، قال الله سبحانه: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ {الملك:2}.
والابتلاء ينبغي مقابلته بالصبر، ففيه رفعة الدرجات، وتكفير الذنوب والسيئات، وانظر الفتوى: 18103. فاصبر عسى الله تعالى أن يعزك، ويرفع درجاتك في الدنيا والآخرة ويبلغك مبلغا لا يخطر لك على بال.
ولا ينبغي أن يغيب عن ذهنك أن الشرع الحكيم قد أعلى من شأن الوالدين، وقرن حقه بحقهما؛ كما قال تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا {الإسراء:23}.
وأمر بالإحسان إليهما ولو كانا كافرين يسعيان فيما فيه خسران الولد دنياه وأخراه بالكفر بالله، قال الله سبحانه: وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا....الآية {لقمان:15}.
ولهذا قرر أهل العلم وجوب برهما وإن كانا ظالمين، عقد البخاري في كتابه الأدب المفرد بابًا أسماه: باب بر والديه وإن ظلما ـ وأورد تحته أثرًا عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: ما من مسلم له والدان مسلمان، يُصبح إليهما محتسبًا، إلا فتح له الله بابين ـ يعني: من الجنة ـ وإن كان واحدًا فواحد، وإن أغضب أحدهما، لم يرضَ الله عنه حتى يرضى عنه, قيل: وإن ظلماه؟ قال: وإن ظلماه. اهـ
فلا يجوز لك هجر والديك بحال، بل يجب عليك صلتهما، وينبغي أن تصبر عليهما، وتجتهد في تناسي ما قد حدث منهما، وأن تسأل ربك أن يعينك في هذا السبيل. واعمل على مقابلة إساءتهما بالإحسان، ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة، أن رجلا قال: يا رسول الله؛ إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني، وأحسن إليهم ويسيئون إلي، وأحلم عنهم ويجهلون علي، فقال: لئن كنت كما قلت، فكأنما تسفهم المل ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك. والمل هو الرماد الحار.
والحاصل أن بر الوالدين واجب، وصلتهما تكون بما يتيسر، قال تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ {التغابن:16}، ويرجع في الصلة إلى العرف، فما عدَّه الناس صلة، كان كذلك، وما لا فلا، فإن كان زيارتهما والاتصال عليهما قد يترتب عليهما ضرر أعظم، فيجب صلتهما على الوجه الذي لا يحصل منه ضرر، والمرجع فيما يعتبر صلة من عدمها إلى أعراف الناس، وراجع الفتوى: 237613.
ويجب عليك الحذر من أن يصدر منك ما يقتضي العقوق، وهو يحصل بأدنى إساءة؛ كعبوس الوجه، والتأفيف ونحو لك، وانظر لمزيد الفائدة الفتوى: 73485.
والله أعلم.