الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد بيّن شيخ الإسلام ابن تيمية هذه المسألة في جامع المسائل فقال: ومن هذا الباب أن المقتول يموت بأجله عند عامة المسلمين، إلا فرقة من القدرية قالوا: إن القاتل قطع أجله. ثم تكلم الجمهور: لو لم يقتل؟ فقال بعضهم: كان يموت لأن الأجل قد فرغ. وقال بعضهم: لا يموت لانتفاء السبب. وكلا القولين قد قاله من ينتسب إلى السنة، وكلاهما خطأ، فإن القدر سبق بأنه يموت بهذا السبب لا بغيره، فإذا قدر انتفاء هذا السبب كان فرض خلاف ما في المقدور، ولو كان المقدور أنه لا يموت بهذا السبب أمكن أن يكون المقدر أنه يموت بغيره، وأمكن أن يكون المقدر أنه لا يموت، فالجزم بأحدهما جهل، فما تعددت أسبابه لم يجزم بعدمه عند عدم بعضها -ولو لم يجزم بثبوته إن لم يعرف له سبب آخر-، بخلاف ما ليس له إلا سبب واحد مثل دخول النار، فإنه لا يدخلها إلا من عصى، فإذا قدر أنه لم يعص لم يدخلها. اهـ.
وأما قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ {آل عمران:156}، فليس فيه دلالة قاطعة لأيٍّ من الفريقين.
قال ابن سعدي في تفسيره: ينهى تعالى عباده المؤمنين أن يشابهوا الكافرين، الذين لا يؤمنون بربهم، ولا بقضائه وقدره، من المنافقين وغيرهم. ينهاهم عن مشابهتهم في كل شيء، وفي هذا الأمر الخاص وهو أنهم يقولون لإخوانهم في الدين أو في النسب: {إذا ضربوا في الأرض} أي: سافروا للتجارة {أو كانوا غزى} أي: غزاة، ثم جرى عليهم قتل أو موت، يعارضون القدر ويقولون: {لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا} وهذا كذب منهم، فقد قال تعالى: {قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم} ولكن هذا التكذيب لم يفدهم، إلا أن الله يجعل هذا القول، وهذه العقيدة حسرة في قلوبهم، فتزداد مصيبتهم، وأما المؤمنون بالله فإنهم يعلمون أن ذلك بقدر الله، فيؤمنون ويسلمون، فيهدي الله قلوبهم ويثبتها، ويخفف بذلك عنهم المصيبة. قال الله ردا عليهم: {والله يحيي ويميت} أي: هو المتفرد بذلك، فلا يغني حذر عن قدر. {والله بما تعملون بصير} فيجازيكم بأعمالكم وتكذيبكم . اهـ.
والله أعلم.