الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فاستراق الشياطين للسمع -قبل البعثة وبعدها- لم يكن من السماء المبنية ذات الأبواب، وإنما كان من السحاب ونحوه مما يحيط بالأرض، كما سبق أن أوضحناه في الفتوى: 241510.
وأما الرمي بالشهب فقد اختلف أهل العلم في وقوعه قبل البعثة، كما ذكره طائفة من المفسرين، ومنهم الشوكاني.
حيث قال في فتح القدير: اختلف هل كان هذا الرمي لهم بالشهب قبل المبعث أو بعده، فقال بالأول طائفة، وبالآخر آخرون، وقالت طائفة بالجمع بين القولين: إن الشياطين لم تكن ترمى قبل المبعث رميا يقطعها عن السمع، ولكن كانت ترمى وقتا ولا ترمى وقتا آخر، وترمى من جانب ولا ترمى من جانب آخر، ثم بعد المبعث رميت في كل وقت، ومن كل جانب حتى صارت لا تقدر على استراق شيء من السمع. اهـ.
وقال القرطبي في تفسيره: القول بالرمي أصح؛ لقوله تعالى: {فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا}. وهذا إخبار عن الجن، أنه زيد في حرس السماء حتى امتلأت منها ومنهم، ولما روي عن ابن عباس قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم جالس في نفر من أصحابه إذ رمي بنجم، فقال: "ما كنتم تقولون في مثل هذا في الجاهلية؟ قالوا: كنا نقول يموت عظيم، أو يولد عظيم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنها لا ترمى لموت أحد ولا لحياته، ولكن ربنا سبحانه وتعالى إذا قضى أمرا في السماء سبح حملة العرش، ثم سبح أهل كل سماء، حتى ينتهي التسبيح إلى هذه السماء، ويستخبر أهل السماء حملة العرش ماذا قال ربكم؟ فيخبرونهم، ويخبر أهل كل سماء حتى ينتهي الخبر إلى هذه، فتتخطف الجن فيرمون، فما جاءوا به فهو حق ولكنهم يزيدون فيه".
وهذا يدل على أن الرجم كان قبل المبعث. وروى الزهري نحوه عن علي بن الحسين، عن علي بن أبي طالب عن ابن عباس. وفي آخره قيل للزهري: أكان يرمى في الجاهلية؟ قال: نعم. قلت: أفرأيت قوله سبحانه: {وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا} قال: غلظت، وشدد أمرها حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم. ونحوه قال القتبي. قال ابن قتيبة: كان، ولكن اشتدت الحراسة بعد المبعث، وكانوا من قبل يسترقون ويرمون في بعض الأحوال، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم منعت من ذلك أصلا. اهـ.
وذكر الرازي في تفسيره وجوها كثيرة لترجيح هذا القول.
والله أعلم.