الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فنحن لا نثبت الحرية بالمفهوم الذي ذكره السائل -استقلال العبد وقدرته على الخروج عن قدر الله-، وإنما نثبت له اختيارًا يصح معه تكليفه ومجازاته، ولكنه لا يخرج عن قضاء الله تعالى وقدره!
ولذلك فنحن لا نقول: إن الإنسان مخير بإطلاق، كما لا نقول: إنه مسير بإطلاق، بل نقول: إنه مخير من وجه، مسير من وجه.
أو نلخص ذلك فنقول: إنه ميسر لما خلق له، وراجع في ذلك ما أحيل عليه في الفتويين: 234691، 151961.
وإذا كان ما ذكره السائل يشكل عليه، فالأشد إشكالًا أن ينكر المرء الفرق الواقع المشاهد بين الفعل الاختياري، كتحرك الإنسان لفعل ما يريد، وبين الفعل الاضطراري، كحركة المرتعش والمحموم، والتكليف والمجازاة إنما تكون على الأول دون الثاني.
ولوضوح هذا الفرق لا تكاد تجد أحدًا يرضى ممن ظلمه، أو تعدّى عليه، أو سلبه حقه أن يحتج عليه بالقدر السابق، بل يقول: هذا فعلك باختيارك ومشيئتك، كما يدل عليه العقل، والحس.
وقد سبق لنا بيان بطلان الاحتجاج بالقدر على المعاصي والمعايب، وراجع في ذلك الفتاوى: 49314، 300247، 57828، 242914.
وعلى أية حال؛ فالجمع بين إثبات القدر، وبين إثبات مشيئة العبد واختياره وكسبه لفعله، قد لا تحتمله العقول، أو أكثرها؛ لما في القدر من سرٍّ لله تعالى، فيبقى للعقل حكم التسليم والإيمان بالغيب، ورد المتشابه إلى المحكم؛ ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية: يكفي العاقل أن يعلم أن الله عز وجل عليم حكيم رحيم، بهرت الألباب حكمته، ووسعت كل شيء رحمته، وأحاط بكل شيء علمه، وأحصاه لوحه وقلمه، وأن لله تعالى في قدره سرًّا مصونًا، وعلمًا مخزونًا، احترز به دون جميع خلقه، واستأثر به على جميع بريته ...
وفي هذا المقام تاهت عقول كثير من الخلائق. اهـ.
وأما ما يتعلق بقوله تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا {الأحزاب:72}، فراجع فيه الفتوى: 200521. وراجع في جواب بقية السؤال الفتويين: 396919، 118200.
وأخيرًا: نلفت نظر الأخ السائل إلى أن تناول الغيب، والحديث عن الله تعالى وأفعاله بالعقل المجرد، باب عظيم للزلل والخطأ.
وينبغي أن يقف المرء عند حدود العبودية، ويقدّر ربّه حقّ قدره، وينشغل بما أريد منه عمّا أريد له، ويجتهد في العمل الصالح، وتجديد الإيمان في قلبه.
والله أعلم.