الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فخلاصة القول في الجمع بين ما ظاهره التعارض في هذا الباب: أن الأصل في الدعاء بالأمور المستحيلة عادة، هو المنع، ثم يشرع ذلك في بعض الأحوال الخاصة، كمعجزات الأنبياء، وكرامات الأولياء، التي تؤول إلى معنى نصرة الحق، وتكثير الطاعات، وإيجاد ما يحبه الله ويرضاه، لا لشهوات العبد وأمانيه.
وكذلك حين يقع المرء في ضرورة، أو ما يقاربها، فيطلب ما فيه خرق للعادة؛ دفعًا للضرورة التي نزلت به، وراجع في ذلك الفتوى: 323944.
ويبقى الكلام على حديث عائشة: "اللهم إني أسألك من الخير كله ..." وهو بالفعل يحتمل الاستدلال به على مشروعية سؤال العافية مدى الدهر، أو خير الدارين، على خلاف كلام الحصكفي.
ويحتمل تخريجه على أن (مِن) تبعيضية، فلا تتعارض مع كلام الحصكفي، قال ابن علان في الفتوحات الربانية: قوله: (منَ الخَيرِ كلِّهِ) بالجر على أنه تأكيد للخير، وبالنصب على أنه مفعول ثاني لأسألك.
قال في الحرز: والأظهر أنه تأكيد لموضع الجار والمجرور، لا سيما و(من) زائدة؛ لإرادة الاستغراق، وإلَّا فيصير التقدير: أسألك كل الخير من الخير. اهـ.
وما ذكره من كون "من" زائدة، يأباه مذهب الجمهور، فقد شرط لزيادتها أن يتقدم نفي أو شبهه عليها، وتأخر نكرة عنها؛ فالأوجه أنها تبعيضية ... اهـ.
وقال في موضع آخر: (مِن) ليست زائدة، بل هي إما للبيان: أي: أسألك مسؤولًا هو الخير كله، أو للابتداء: أي: أسألك خيرًا مبدؤه الخير. اهـ.
وقال الشيخ ابن عثيمين في شرح بلوغ المرام: "من" هنا للتبعيض، والخير كله لا يكون لأحد, الخير كله إنما هو بيد الله عزّ وجلّ, فلا يمكن أن يحصل للإنسان كل خير، بل يحصل له من الخير ... وهنا نقول: "من الشر" ليس للتبعيض, ولكنها للتعدية، أي: تعدية العامل؛ ولهذا نقول: إن الإنسان يستعيذ من الشر كله -قليله وكثيره-, ففرّق بينها وبين السؤال: "أسألك من الخير" من هنا للتبعيض, "أعوذ بك من الشر", قلنا: هذه للتعدية، أي: تعدية الفعل. اهـ.
والله أعلم.