الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فأما الجلوس بين الخطبتين فإنه جلوس خفيف، قدره بعضهم بقدر سورة الإخلاص.
قال البهوتي في كشاف القناع: (وَ) يُسَنُّ (أَنْ يَجْلِسَ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ جَلْسَةً خَفِيفَةً جِدًّا) لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ قَالَ «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ خُطْبَتَيْنِ وَهُوَ قَائِمٌ، يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا بِجُلُوسٍ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ صَاحِبُ التَّلْخِيصِ (بِقَدْرِ سُورَةِ الْإِخْلَاصِ، فَإِنْ أَبَى) أَنْ يَجْلِسَ بَيْنَهُمَا (أَوْ خَطَبَ جَالِسًا) لِعُذْرٍ أَوْ غَيْرِهِ (فَصَلَ بِسَكْتَةٍ) وَلَا يَجِبُ الْجُلُوسُ؛ لِأَنَّ جَمَاعَةً مِن الصَّحَابَةِ مِنْهُمْ عَلِيٌّ، سَرَدُوا الْخُطْبَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ جُلُوسٍ، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْجِلْسَةِ ذِكْرٌ مَشْرُوعٌ. انتهى.
وقال الخطيب الشربيني في مغني المحتاج: (وَيَكُونُ جُلُوسُهُ بَيْنَهُمَا) أَيْ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ (نَحْوَ سُورَةِ الْإِخْلَاصِ) اسْتِحْبَابًا، وَقِيلَ إيجَابًا، وَهَلْ يَقْرَأُ فِيهَا أَوْ يَذْكُرُ، أَوْ يَسْكُتُ؟ لَمْ يَتَعَرَّضُوا لَهُ، لَكِنْ فِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ "أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ فِيهَا". انتهى.
وأما الموعظة فهي من أركان الخطبة، بل هي ركنها الأعظم، والمقصود الأساس منها، وانظر لمعرفة أركان الخطبة، الفتوى: 417883.
فلا تصح الخطبة إن لم يأمر فيها بتقوى الله، أو نحو ذلك من الموعظة، وهذه الموعظة تكون آخر الأركان استحبابا، فيبدأ بحمد الله، ثم الثناء عليه، ثم الصلاة على نبيه، ثم قراءة شيء من القرآن، ثم الموعظة. ولو قدم بعض الأركان على بعض، لم يؤثر ذلك في صحة الخطبة.
قال البهوتي في شرح الإقناع: (وَالْوَصِيَّةُ بِتَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى) لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ. (قَالَ فِي التَّلْخِيصِ: وَلَا يَتَعَيَّنُ لَفْظُهَا) أَيْ الْوَصِيَّةِ (وَأَقَلُّهَا: اتَّقُوا اللَّهَ، وَأَطِيعُوا اللَّهَ، وَنَحْوُهُ انْتَهَى).
وَذَكَرَ أَبُو الْمَعَالِي، وَالشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: لَا يَكْفِي ذِكْرُ الْمَوْتِ وَذَمُّ الدُّنْيَا، وَلَا بُدَّ أَنْ يُحَرِّكَ الْقُلُوبَ وَيَبْعَثُ بِهَا إلَى الْخَيْرِ...
ثم قال بعد كلام: (فَتُسْتَحَبُّ الْبُدَاءَةُ بِالْحَمْدُ) لِلَّهِ؛ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: «كُلُّ كَلَامٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِالْحَمْدُ لِلَّهِ؛ فَهُوَ أَجْذَمُ» (ثُمَّ بِالثَّنَاءِ) عَلَى اللَّهِ تَعَالَى. (وَهُوَ مُسْتَحَبّ... ثُمَّ الصَّلَاةُ) عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح: 4]، ثُمَّ بِالْقِرَاءَةِ (ثُمَّ بِالْمَوْعِظَةِ) وَلَوْ قَرَأَ مَا تَضَمَّنَ الْحَمْدَ وَالْمَوْعِظَةَ، ثُمَّ صَلَّى عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَفَى عَلَى الصَّحِيحِ. قَالَ أَبُو الْمَعَالِي: فِيهِ نَظَرٌ؛ لِقَوْلِ أَحْمَدَ: لَا بُدَّ مِنْ خُطْبَةٍ.
وَنَقَلَ ابْنُ الْحَكَمِ: لَا تَكُونُ خُطْبَةً إلَّا كَمَا خَطَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ خُطْبَةً تَامَّةً. قَالَهُ فِي الْإِنْصَافِ (فَإِنْ نَكَّسَ) بِأَنْ قَدَّمَ غَيْرَ الْحَمْدِ عَلَيْهِ (أَجْزَأَهُ) لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ. انتهى.
والله أعلم.