الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فإن هذه خواطر فاسدة مبنية على تشبيه الله سبحانه بعباده، وقياسه على خلقه، والله سبحانه لا يشبهه شيء، قال تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ {الشورى:11}، فالله سبحانه لا يشغله شأن عن شأن تبارك وتقدس، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وهذا كما أن حسابه لعباده يوم القيامة يحاسبهم كلهم في ساعة واحدة، وكل منهم يخلو به كما يخلو الرجل بالقمر ليلة البدر، فيقرره بذنوبه، وذلك المحاسب لا يرى أنه يحاسب غيره. كذلك قال أبو رَزِين للنبي لما قال النبي: «ما منكم من أحد إلا سيخلو به ربه كما يخلو أحدكم بالقمر ليلة البدر»، قال: يا رسول الله، كيف ونحن جميع وهو واحد؟! فقال: «سأنبئك بمثل ذلك في آلاء الله؛ هذا القمر كلكم يراه مخليا به، فالله أكبر».
وقال رجل لابن عباس -رضي الله عنه-: كيف يحاسب الله العباد في ساعة واحدة؟ قال: كما يرزقهم في ساعة واحدة. وكذلك ما ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي قال: يقول الله: قَسَمْتُ الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فنصفها لي ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: ﴿الحمد لله رب العالمين﴾، قال الله: حمدني عبدي، فإذا قال العبد: ﴿الرحمن الرحيم﴾ قال الله: أثنى عليّ عبدي، فإذا قال العبد: ﴿مالك يوم الدين﴾؛ قال الله: مجّدني عبدي، فإذا قال العبد: ﴿إياك نعبد وإياك نستعين﴾؛ قال: هذه بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: ﴿اهدنا الصراط المستقيم. صراط الذين أنعمت عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضالين﴾، قال: هؤلاء لعبدي، ولعبدي ما سأل. فهذا يقوله - سبحانه وتعالى - لكل مُصَلٍّ قرأ الفاتحة، فلو صلى الرجل ما صلى من الركعات، قيل له ذلك، وفي تلك الساعة يصلي من يقرأ الفاتحة من لا يحصي عدده إلا الله، وكل واحد منهم يقول الله له كما يقول لهذا، كما يحاسبهم كذلك، فيقول لكل واحد ما يقول له من القول في ساعة واحدة.
وكذلك سمعه لكلامهم يسمع كلامهم كله مع اختلاف لغاتهم، وتفنّن حاجاتهم، يسمع دعاءهم سمع إجابة، ويسمع كل ما يقولونه سمع علم وإحاطة، لا يشغله سمع عن سمع. ولا تغلطه المسائل، ولا يتبرم بإلحاح الملحين، فإنه -سبحانه- هو الذي خلق هذا كله، وهو الذي يرزق هذا كله، وهو الذي يوصل الغذاء إلى كل جزء من البدن على مقداره، وصفته المناسبة له، وكذلك من الزرع.
وكرسيه قد وسع السماوات والأرض، ولا يؤوده حفظهما، فإذا كان لا يؤوده خلقه ورزقه على هذه التفاصيل، فكيف يؤوده العلم بذلك، أو سمع كلامهم، أو رؤية أفعالهم، أو إجابة دعائهم سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا ﴿وما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ والأرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيامَةِ والسَّماواتُ مَطْوِيّاتٌ بِيَمِينِهِ سبحانه وتعالى عَمّا يُشْرِكُونَ﴾ [الزمر:٦٧]. اهـ. من شرح حديث النزول.
فمثل هذه الوساوس ينبغي أن تنفِري عنها، وتدافعيها.
وإذا فعلت هذا؛ لم تضرك تلك الخواطر شيئًا؛ فقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها، ما لم تعمل، أو تتكلم. متفق عليه.
قال ابن رجب: فهل يعاقب على ما همّ به من المعصية، أم لا؟
هذا على قسمين:
أحدهما: أن يكون الهمّ بالمعصية خاطرًا خطر، ولم يساكنه صاحبه، ولم يعقد قلبه عليه، بل كرهه، ونفر منه، فهو معفو عنه، وهو «كالوساوس الرديئة التي سئل النبي صلى الله عليه وسلم عنها، فقال: ذاك صريح الإيمان». ولما نزل قوله تعالى: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء} [البقرة:284]، شق ذلك على المسلمين، وظنوا دخول هذه الخواطر فيه، فنزلت الآية التي بعدها، وفيها قوله: {ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به} [البقرة:286]، فبينت أن ما لا طاقة لهم به، فهو غير مؤاخذ به، ولا مكلف به، وقد سمى ابن عباس وغيره ذلك نسخًا، ومرادهم أن هذه الآية أزالت الإبهام الواقع في النفوس من الآية الأولى، وبينت أن المراد بالآية الأولى العزائم المصمم عليها، ومثل هذا كان السلف يسمونه نسخًا. اهـ. من جامع العلوم والحكم.
والله أعلم.