الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فليس هذا هو مراد شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-، وإنما مراده أن وجود أحياز في الأزل إن كان ممكنا، فلا يلزم منه وجود أشياء قائمة بنفسها، أزلية مع الله تعالى!
وأصل ذلك أن الرازي قد استدل على نفي علو الله سبحانه على خلقه، بأن ذلك يستلزم وجود أشياء (أحياز) قائمة بأنفسها مع الله في الأزل! فردَّ شيخ الإسلام هذا الاستدلال بإبطال هذا اللازم، وذلك أن الحيز أمر عدمي كما وضحه شيخ الإسلام في الأوجه الأولى لرد كلام الرازي. وبالتالي لا يلزم منه أن يكون مع الله في الأزل شيء موجود. وإن فرضنا أن الحيز أمر وجودي، فهذا الوجود إما أن يكون ممتنعا في الأزل، فيكون كالأول، وإما أن يكون ممكنا، وهذا لا محذور فيه؛ لأن الممكن لا يقوم بنفسه، ولا تقتضي ذاته وجوده، ولا عدمه، وإنما يلزم هذا في واجب الوجود القائم بنفسه، لا ممكن الوجود الذي لا بد أن يُسبَق بواجب الوجود.
ولذلك حكم شيخ الإسلام بأن وجود الممكن في الأزل لا يترتب عليه اللازم الباطل من وجود موجود قائم بنفسه مع الله تعالى في الأزل. وهذا يحتاج إلى تعريف الممتنع، والواجب، والممكن، وقد سبق لنا بيانه في الفتوى: 364606.
وتجد فيها التنبيه على أن إرادة الله تعالى إنما تتعلق بالممكنات لا الواجبات ولا الممتنعات.
وقد أكد ذلك شيخ الإسلام في الوجه التاسع من أوجه رد كلام الرازي، فسلَّم له بصحة حجة: أن المسلمين ليس فيهم من يرتضي أن يوجد معه في الأزل أشياء موجودة قائمة بأنفسها غير متناهية.
وقال: ومعلوم أن هذا لا يرتضيه المسلمون من أهل الإثبات وغيرهم؛ لاعتقادهم أن ذلك ليس من لوازم قولهم، فإذا قدر أنه من لوازم قولهم، احتاج نفيه إلى دليل ... فإذا احتج المحتج بمثل قوله تعالى: {الله خالق كل شيء} و: {رب العالمين} ونحو ذلك، لم يدل إلا على أن الأحياز الموجودة مخلوقة لله، وهو ربها، وهذا لا ينازع فيه مسلم. اهـ.
وقال قبلها في الوجه السابع: إذا قدر أن هذه الأحياز مفتقرة إليه، ممكنة بنفسها واجبة به، أمكن أن يقال فيها ما يقوله من يجوِّز أن يكون معه ما هو من لوازم ذاته. اهـ.
وقال في الثامن: المثبت لا يقول: إنه يفتقر إلى حيز وجودي منفصل عنه، فإن هذا ليس هو معروفا من أقوال المثبتين. وإن قدر قائل يقوله أمكنه أن يقول: هذا من لوازم ذاته، وحينئذ فإن جاز أن يلزمه أمر وجودي كان هذا ممكنا، وإلا تعين قول من يجعل الحيز عدميا. اهـ.
ولمزيد الإيضاح نشير إلى أن مذهب شيخ الإسلام ابن تيمية في مسألة تسلسل الحوادث، فهو يمنع من حوادث لا أول لأعيانها، وبإمكان حوادث لا أول لأنواعها، وهذا الثاني (إثبات التسلسل في الأنواع لا الأعيان) لا يستلزم القول بقدم العالم، بمعنى أنه وجد بلا خالق، أو أن أفراده غير مسبوقة بالعدم!! بل كل فرد منها مسبوق بالعدم، وبالخالق الذي خلقه. وراجع في تفصيل ذلك الفتويين: 190011، 297787.
والله أعلم.