الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فأم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- عاشت بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم قريبا من خمسين سنة، فقد ماتت -رضي الله عنها- سنة ثمان وخمسين للهجرة، وكان لها يوم توفي عنها النبي صلى الله عليه وسلم ثماني عشرة سنة.
والآثار المروية في فتاواها وأجوبتها لمن سألها، إنما كانت بعد وفاة رسول صلى الله عليه وسلم، بل لا نبعد إذا قلنا: إنها كانت بعد وفاة أبيها أبي بكر -رضي الله عنه- أي في خلافة عمر، ثم عثمان، ثم علي ثم معاوية -رضي الله عنهم جميعا-. هذا أولا.
وثانيا: لا يخفى أن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم كن أعرف الناس وأعلمهم بالمسائل المتعلقة بأمور الزوجية، وما يترتب عليها من مسائل الطهارة، وحسن العشرة ونحو ذلك. فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، صرن هن المرجع في تقرير هذه الأحكام.
ومن ذلك السؤال الأول للسائل، فقد روى مالك في الموطأ عن نافع أن عبيد الله بن عبد الله بن عمر أرسل إلى عائشة يسألها: هل يباشر الرجل امرأته وهي حائض؟ فقالت: لتشد إزارها على أسفلها، ثم يباشرها إن شاء.
وعبيد الله بن عبد الله بن عمر ليس من الصحابة، ولا حتى من كبار التابعين، وإنما هو من أوسطهم (توفي سنة 106).
وهذا النوع من الأسئلة برغم ما فيه من الحرج، إلا إن مصلحة العلم والتعليم وتقرير الأحكام: أولى بالمراعاة، ونساء النبي صلى الله عليه وسلم هن أوثق الناس في مثل هذه المسائل وأعلمهم بها، وفتواهن فيها ترفع الخلاف، وتزيل اللبس.
ونحو المسألة السابقة أيضا: مسألة الجماع دون إنزال، هل يوجب الغسل أم لا؟ فقد اختلف فيها الصحابة الكبار من المهاجرين والأنصار، ولم يرفع فيها الخلاف إلا جواب أم المؤمنين عائشة، قال أبو موسى الأشعري -رضي الله عنه-: اختلف في ذلك رهط من المهاجرين والأنصار، فقال الأنصاريون: لا يجب الغسل إلا من الدفق أو من الماء. وقال المهاجرون: بل إذا خالط فقد وجب الغسل. قال: قال أبو موسى: فأنا أشفيكم من ذلك، فقمت فاستأذنت على عائشة، فأُذن لي، فقلت لها: يا أماه -أو يا أم المؤمنين- إني أريد أن أسألك عن شيء وإني أستحييك، فقالت: لا تستحيي أن تسألني عما كنت سائلا عنه أمك التي ولدتك، فإنما أنا أمك، قلت: فما يوجب الغسل؟ قالت: على الخبير سقطت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا جلس بين شعبها الأربع، ومس الختان الختان؛ فقد وجب الغسل» رواه مسلم.
ورواه مالك بلفظ: لقد شق علي اختلاف أصحاب النبي رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر إني لأعظم أن أستقبلك به، فقالت: ما هو؟ ما كنت عنه سائلا عنه أمك، فسلني عنه. قال لها: الرجل يصيب أهله، ثم يكسل فلا ينزل ... الحديث.
قال القاضي عياض في إكمال المعلم: قول أبي موسى لعائشة: "لقد شق علي اختلاف أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في أمر، إني لأعظم أن أستقبلك به" تأدب معها؛ لما فيه من ذكر جماع النساء بحضرتها، وسؤالها عن حكم ذلك، وهو مما يستحيى منه، ويوقر فيه ذوو الهيئات، ولا سيما ذكر ذلك بين الرجال والنساء الأجانب، ومكانها من الحرمة والتوقير مكانها، ولا سيما أنه يستدعي منها ما مضمونه الإخبار عن حالها في ذلك. وقولها هي له: "ما كنت سائلا عنه أمك فسلني عنه": بسطة له في السؤال، وتعريف له بحرمتها، وأن ما دعته الضرورة إلى سؤال أمه عنه، فله سؤالها عنه. اهـ.
وأما جواب النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن العاص عندما سأله عن أحب الناس إليه، فهذا لا بد في بيانه من التنبيه على أن النبي صلى الله عليه وسلم هو ميزان حسن الخلق وكرم الطبع، فعلى أفعاله وطباعه توزن الطباع والأفعال، فما وافقها حُمِد، وما خالفها ذُمَّ.
فإذا ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ما قد يعيبه بعض الناس لمخالفته لطباعهم، فهم أولى بالعيب، وينبغي أن يجتهدوا في توجيه طباعهم وضبط أخلاقهم؛ ليوافقوا خلق النبي صلى الله عليه وسلم وطبعه، وإلا لزمهم أن يقروا للنبي صلى الله عليه وسلم بالكمال، ولأنفسهم بالنقص.
وسؤال عمرو -رضي الله عنه- لا بد فيه من العلم ابتداءً أن النبي صلى الله عليه وسلم ليس كغيره من البشر، فحبه للشيء فيه بيان لفضيلته ومنقبته، ولذلك فالإعلام به ليس خبرا مجردا لا ينبني عليه شيء من الأحكام!
ولذلك قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري، تعليقا على هذا الحديث: فيه مزية أبي بكر على الرجال، وبنته عائشة على النساء. اهـ.
وقد ثبت في بعض روايات الحديث أن عَمْرًا -رضي الله عنه- لما قال: يا رسول الله، من أحب الناس إليك؟ قال له النبي صلى الله عليه وسلم: لم؟ فقال: لأحب من تحب. رواه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني، وعنه ابن حبان في صحيحه.
قال القرطبي في المفهم: قوله: "من أحب الناس إليك" هذا السؤال: أخرجه الحرص على معرفة الأحب إليه؛ ليقتدي به في ذلك، فيحب ما أحب، فإن المرء مع من أحب. وقوله في الجواب: "عائشة" يدل على جواز ذكر مثل ذلك، وأنه لا يعاب على من ذكره إذا كان المقول له من أهل الخير والدين، ويقصد بذلك مقاصد الصالحين، وإنما بدأ النبي صلى الله عليه وسلم بذكر محبة عائشة أولا؛ لأنها محبة جبلية ودينية، وغيرها دينية لا جبلية، فسبق الأصلي على الطارئ. اهـ.
والله أعلم.