الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فما دامت عملة بلدك التي جرى عليها العقد قد ألغيت، فعليك القيمة، على خلاف بين أهل العلم في اليوم المعتبر لتقدير هذه القيمة: هل هو يوم العقد، أو يوم المطالبة، أو آخر يوم قبل إلغاء العملة، ولعل هذا هذا هو الأقرب.
قال ابن حجر في «تحفة المحتاج»: ولو عقد -يعني النكاح- بنقد، ثم تغيرت المعاملة، وجب هنا وفي البيع وغيره ما وقع العقد به، زاد سعره، أو نقص، أو عز وجوده، فإن فُقِد، وله مثل؛ وجب، وإلا فقيمته ببلد العقد وقت المطالبة. اهـ.
وجاء في فتاوى الشهاب الرملي: (سئل) عن امرأة تزوجت بصداق من الذهب الأشرفي، وكان صرف كل دينار يومئذ من الفلوس ثلثمائة درهم، وتغيرت المعاملة، وفقد المثل، أو عز وجوده. فهل اللازم المثل أو القيمة يوم التزويج، أو القيمة يوم المطالبة، أو لا؟
(فأجاب) بأن الواجب للزوجة الدنانير المذكورة من الذهب الأشرفي المتعامل به وقت العقد، وإن زاد سعره، أو نقص، أو عز وجوده، فإن فقد الذهب الأشرفي اعتبرت قيمته وقت المطالبة إذا لم يكن له مثل حينئذ، وإلا فالواجب منه. اهـ.
وقال ابنه الشمس الرملي في «نهاية المحتاج»: لو أبطل السلطان ما باع به أو أقرضه لم يكن له غيره بحال، نقص سعره أم زاد، أم عز وجوده، فإن فقد وله مثل؛ وجب، وإلا فقيمته وقت المطالبة، وهذه المسألة قد عمت بها البلوى في زمننا في الديار المصرية في الفلوس. اهـ.
وقال البجيرمي في حاشيته على شرح المنهج: فحيث كان لذلك قيمة أي غير تافهة رد مثله، وإلا رد قيمته باعتبار أقرب وقت إلى وقت المطالبة له فيه قيمة. اهـ.
وجاء في «الموسوعة الفقهية الكويتية»: إذا كان الدين الثابت في الذمة نقدا بالاصطلاح لا بالخلقة كسائر العملات الأخرى غير الذهبية والفضية، فطرأ عليه تغير عند حلوله، فعندئذ يفرق بين خمس حالات:
الحالة الأولى: (الكساد العام للنقد): وذلك بأن توقف الجهة المصدرة للنقد التعامل به، فتترك المعاملة به في جميع البلاد وهو ما يسميه الفقهاء بـ " كساد النقد ". ففي هذه الحالة: لو اشترى شخص سلعة بنقد محدد معلوم، ثم كسد ذلك النقد قبل الوفاء، أو استدان نقدا معلوما ثم كسد قبل الأداء، أو وجب في ذمته المهر المؤجل نقدا محددا، ثم كسد قبل حلوله. فقد اختلف الفقهاء في ذلك على أربعة أقوال:
القول الأول: لأبي حنيفة، وهو أن النقد الذي كسد إذا كان ثمنا في بيع، فإنه يفسد العقد، ويجب الفسخ ما دام ممكنا؛ لأنه بالكساد خرج عن كونه ثمنا، حيث إن ثمنيته ثبتت بالاصطلاح، فإذا ترك الناس التعامل به، فإنها تزول عنه صفة الثمنية، فيبقى المبيع بلا ثمن، فيفسد البيع. أما إذا كان دينا في قرض أو مهرا مؤجلا، فيجب رد مثله ولو كان كاسدا؛ لأنه هو الثابت في الذمة لا غيره ...
والقول الثاني: لأبي يوسف والحنابلة على الراجح عندهم والمالكية في غير المشهور، وهو أنه لا يجزئ رد المثل بعدما كسد، ويجب على المدين رد قيمة النقد الذي وقع عليه العقد - يوم التعامل - من نقد آخر. وبهذا أخذت المادة "805" من مرشد الحيران حيث جاء فيها: "إذا استقرض مقدارا معينا من الفلوس الرائجة والنقود غالبة الغش، فكسدت وبطل التعامل بها فعليه رد قيمتها يوم قبضها لا يوم ردها". واستدلوا على ذلك:
أولا: بأن إيقاف التعامل بها من قبل الجهة المصدرة لها منع لنفاقها وإبطال لماليتها، إذ هي أثمان بالاصطلاح لا بالخلقة، فصار ذلك إتلافا لها، فيجب بدلها وهو القيمة بناء على قاعدة الجوابر.
ثانيا: ولأن الدائن قد دفع شيئا منتفعا به لأخذ عوض منتفع به، فلا يظلم بإعطائه ما لا ينتفع به. قالوا: وإنما اعتبرت القيمة يوم التعامل؛ لأنه وقت الوجوب في الذمة.
والقول الثالث: لمحمد بن الحسن الشيباني وبعض الحنابلة، وهو أنه يجب على المدين رد قيمة النقد الذي وقع به التعامل من النقد الآخر وقت الكساد، أي في آخر نفاقها، وهو آخر ما تعامل الناس بها؛ لأنه وقت الانتقال إلى القيمة، إذ كان يلزمه رد مثلها ما دامت نافقة، فإذا كسدت انتقل إلى قيمتها حينئذ.
والقول الرابع: للشافعية والمالكية على المشهور عندهم، وهو أن النقد إذا كسد بعد ثبوته في الذمة وقبل أدائه، فليس للدائن سواه. ويعتبر هذا الكساد كجائحة نزلت بالدائن، ولا فرق في ذلك بين أن يكون الدين قرضا أو ثمن مبيع أو غير ذلك. اهـ.
ومسألة «تغير قيمة العملة في الفقه الإسلامي» كانت إحدى القضايا التي ناقشها أعضاء مجمع الفقه الإسلامي، ونشرت فيها مجلة المجمع عدة أبحاث في عددها الخامس، مع نشر كلمات الأعضاء المناقشين، ومن ذلك كلمة الشيخ خليل محيي الدين الميس، والتي جاء فيها:
القضاء اليوم في لبنان أمام مشكلة حيث إذا طلقت امرأة تزوجت منذ عشر سنوات وكان مؤخر صداقها عشرة آلاف ليرة لبنانية نرى القاضي يفرض نفقة ثلاثة أشهر أكثر من مؤخر صداقها نفقة العدة أكثر من مؤخر صداقها، ومؤخر صداقها يكفيها فقط لتستأجر سيارة وتحضر أمام مجلس القضاء لتسمع الحكم وتعود إلى بيتها بمؤخر صداقها. هذه حالة تحصل في لبنان ... اهـ.
وقد سبق لنا بيان مسألة انخفاض قيمة العملة بسبب التضخم، وأثره بالنسبة للالتزامات المالية اللاحقة، والديون الآجلة، وذلك في الفتوى: 348040. وتجد فيها كيفية التقويم ومعياره.
والله أعلم.