الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فالمعاصي المذكورة في السؤال لا يبطل بها العمل، بحيث يطالب الشخص بإعادته، لكن هل تنقص أجر طاعة صاحبها المتلبس بها؟
الجواب: أن نقص الثواب، أو زيادته بيد الله، وليس لأحد أن يحكم بنقص في الثواب، أو زيادة فيه، إلا بنص شرعي، ولكن على العموم الذنب له شؤم على صاحبه، وتبعات سيئة تؤثر لا محالة سلبًا على عبادته، فالعبد إذا فعل المعاصي والطاعات، وأتى بحسنات وسيئات، وُزِنت أعماله يوم القيامة، فإن رجحت حسناته دخل الجنة، وإن رجحت سيئاته؛ فهو مستحق للعذاب بقدر سيئاته، ثم يدخل الجنة، وراجع الفتوى: 328135
وكما أن الحسنات يذهبن السيئات، فكذلك السيئات لها أثر في إحباط الحسنات، هذا من جهة العموم،
أما من جهة الخصوص، فقد نص الشارع على أن بعض المعاصي تؤثر على ثواب أجر العبد، منها:
الشرك بالله تعالى، ومنها الرِّدَّة، والرياء، والمنّ على الله -سبحانه- بالعبادة، والدليل على ذلك؛ قول الله تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ* أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ {هود:15ـ 16}.
كما أوحى الله تعالى إلى جميع أنبيائه أنَّ الشرك مُحبِط للعمل، فقال سبحانه: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ {الزمر: 65}.
وقد أبطل الله تعالى جميع قربات المشركين، وإن كانوا قاصدين بها وجهه؛ لأنهم مشركون، قال سبحانه: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا {الفرقان: 23}.
وقوله تعالى: وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ {البقرة: 217}.
وأما الرياء؛ فإن كان في عبادة لا تتجزأ، ويرتبط أولها بآخرها كالصلاة، والصيام، والحج؛ فإنَّها تبطل به، وإن كان في عبادة من شأنها أن تتجزَّأ، ولا ارتباط بين أجزائها كقراءة القرآن، والصدقة؛ فإنما يقبل ما أريد به وجه الله تعالى، ويحبط ما سواه، كمن تصدق بألفين؛ أراد بألف منها وجه الله تعالى، ثم زاد ألفًا أخرى رياء، فإنما تُقبل الألف التي لله تعالى، وتُردُّ الألف الأخرى التي زادها لأجل نظر الناس إليه، لقوله سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ.... {البقرة: 264}.
فدلَّت الآية على أنَّ العبادة تبطل بالرياء، وإن كان قصد فاعلها وجه الله، ثم لابسها الرياء في أثنائها، وقال صلى الله عليه وسلم: إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ مِنَ الْعَمَلِ إِلَّا مَا كَانَ لَهُ خَالِصًا، وَابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُهُ. رواه النسائي.
وقال الله تبارك وتعالى في الحديث القدسي: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِيَ غَيْرِي؛ تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ. رواه مسلم.
قال الإمام النووي -رحمه الله تعالى- في شرحه لهذا الحديث: مَعْنَاهُ: أنا غني عَنِ الْمُشَارَكَةِ وَغَيْرِهَا، فَمَنْ عَمِلَ شَيْئًا لِي وَلِغَيْرِي؛ لَمْ أَقْبَلْهُ، بَلْ أَتْرُكْهُ لِذَلِكَ الْغَيْرِ، والمراد: أن عمل المرائي باطل لا ثواب فِيهِ، وَيَأْثَمُ بِهِ. انتهى.
وقوله سبحانه: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ {الحجرات: 17}.
فالمنة لله على خلقه في جميع شئونهم، وأفضل ما منَّ الله تعالى به على عباده هو هدايتهم للإيمان، فإذا منَّ العبد بطاعته على الله؛ فإنَّ الله غنيٌّ عن العالمين، ولا ينفعه طاعة المطيع، ولا تضرُّه معصية العاصي.
هذا، والواجب على المسلم أن يحذر كل الحذر من الذنوب والمعاصي، وأن يعلم أنه إن استرسل معها فهو على خطر عظيم.
قال ابن القيم في كتابه الوابل الصيب من الكلم الطيب: ومحبطات الأعمال، ومفسداتها أكثر من أن تحصر، وليس الشأن في العمل، إنما الشأن في حفظ العمل مما يفسده ويحبطه، فالرياء وإن دق محبط للعمل، وهو أبواب كثيرة لا تحصر، وكون العمل غير مقيد باتباع السنة أيضًا موجب لكونه باطلًا، والمنُّ به على الله تعالى بقلبه مفسد له، وكذلك المن بالصدقة، والمعروف، والبر، والإحسان، والصلة، مفسد لها، كما قال سبحانه وتعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى ـ وأكثر الناس ما عندهم خبر من السيئات التي تحبط الحسنات، وقد قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون ـ فحذر المؤمنين من حبوط أعمالهم بالجهر لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما يجهر بعضهم لبعض، وليس هذا بِرِدَّة، بل معصية تحبط العمل، وصاحبها لا يشعر بها، فما الظن بمن قدَّم على قول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهدية، وطريقه، قول غيره، وهديه، وطريقه؟ أليس هذا قد حبط عمله وهو لا يشعر؟ ومن هذا قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله ـ ومن هذا قول عائشة -رضي الله تعالى عنها، وعن أبيها- لزيد بن أرقم رضي الله عنه لما باع بالعينة: إنه قد أبطل جهاده مع رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، إلا أن يتوب، وليس التبايع بالعينة رِدَّة، وإنما غايته أنه معصية، فمعرفة ما يفسد الأعمال في حال وقوعها، ويبطلها، ويحبطها بعد وقوعها من أهم ما ينبغي أن يفتش عليه العبد، ويحرص على عمله، ويحذره. انتهى.
والله أعلم.