الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فالاستثناء، وذكر المشيئة في أمور المستقبل بصفة عامة لا إشكال فيه، فإن كان في أمر محتمل، أو مشكوك فيه، فهو على بابه، وإن كان في أمر مقطوع به، فهو على معنى التحقيق، لا التعليق.
قال ابن حبان في صحيحه (التقاسيم والأنواع): الاستثناء يستحيل في الشيء الماضي، وإنما يجوز الاستثناء في المستقبل من الأشياء ...
على أن اللغة تسوغ إباحة الاستثناء في الشيء المستقبل، وإن لم يشك في كونه، كقول الله جل وعلا: {لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين}. اهـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في «الإيمان»: كل مطلوب مستقبل تعلق بمشيئة الله، وإن جزم بوجوده؛ لأنه لا يكون مستقبل إلا بمشيئة الله. فقولنا: "يكون هذا إن شاء الله"، حق، فإنه لا يكون إلا إن شاء الله، والشك واللفظ ليس فيه إلا التعليق، وليس من ضرورة التعليق الشك، بل هذا بحسب علم المتكلم، فتارة يكون شاكًا، وتارة لا يكون شاكًا، فلما كان الشك يصحبها كثيرًا؛ لعدم علم الإنسان بالعواقب، ظن الظان أن الشك داخل في معناها، وليس كذلك، فقوله: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ}، لا يتصور فيه شك من الله، بل ولا من رسوله المخاطب، والمؤمنين؛ ولهذا قال ثعلب: هذا استثناء من الله، وقد علمه، والخلق يستثنون فيما لا يعلمون ... اهـ.
ومما يدل على جواز ذلك في المستقبل الذي هو من أمور الآخرة -كما في سؤال السائل- ما رواه ابن وهب والفريابي والبيهقي -ثلاثتهم- في القدر، وعبد الله بن الإمام أحمد في السنة، وابن أبي حاتم في تفسيره، والنحاس في إعراب القرآن، والآجري في الشريعة، وابن بطة في الإبانة، وابن عساكر في تاريخ دمشق، عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه قدم الشام، فخطب الناس بالجابية، وكان الجاثليق (مقدم الأساقفة) قريبا منه، فقال عمر في خطبته: "من يضلل الله فلا هادي له". فقال الجاثليق: إن الله لا يضل أحدا! فقال عمر: ماذا يقول؟ فأخبروه. فقال عمر: "كذبت يا عدو الله، بل الله خلقك، وهو يضلك، ثم يميتك، ثم يبعثك، ثم يدخلك النار إن شاء الله". اهـ.
وأما ذكر المشيئة في الأمور المتحققة في أمر الآخرة، فقد وردت فيه عدة نصوص، وهي محمولة على معنى التبرك، والتحقيق، لا التعليق. ومن ذلك قول النبي -صلى الله عليه وسلم- فيمن بايع بيعة الرضوان: لا يدخل النار -إن شاء الله- من أصحاب الشجرة أحد. رواه مسلم.
قال القرطبي في «المفهم»: استثناؤه -صلى الله عليه وسلم- هنا بقوله "إن شاء الله" استثناء في واجب قد أعلمه الله -تعالى- بحصوله بقوله: {لَقَد رَضِيَ اللَّهُ عَنِ المُؤمِنِينَ}، وبغير ذلك، وصار هذا الاستثناء كقوله تعالى: {لَتَدخُلُنَّ المَسجِدَ الحَرَامَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ}. اهـ.
وقال النووي في شرح مسلم: إنما قال "إن شاء الله" للتبرك، لا للشك. اهـ.
ومن هذا أيضا قوله -صلى الله عليه وسلم-: لكل نبي دعوة، فأريد -إن شاء الله- أن أختبئ دعوتي؛ شفاعة لأمتي يوم القيامة. رواه البخاري ومسلم. وفي رواية لمسلم: فهي نائلة -إن شاء الله- من مات من أمتي، لا يشرك بالله شيئا.
قال العراقي في «طرح التثريب»: قوله "إن شاء الله" أتى به النبي -صلى الله عليه وسلم- على سبيل التبرك، والامتثال لقوله تعالى: {ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله}. اهـ.
وقال القرطبي في «المفهم»: دخول الاستثناء هنا كدخوله في قوله تعالى: {لَتَدخُلُنَّ المَسجِدَ الحَرَامَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ}، وسيأتي القول فيه في قوله -عليه الصلاة والسلام-: "وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون". اهـ.
وقال ابن حجر في «فتح الباري»: زيادة "إن شاء الله" في هذا للتبرك. اهـ.
ومن هذا أيضا قول الملكين في سؤال القبر للرجل الصالح بعد جوابه: على اليقين كنت، وعليه مت، وعليه تبعث، إن شاء الله.، وقولهما في الرجل السوء: على الشك كنت، وعليه مت، وعليه تبعث، إن شاء الله تعالى. رواه أحمد وابن ماجه وغيرهما.
قال الطيبي في شرح المشكاة: "إن شاء الله" في الموضعين للتبرك، والتحقيق كقوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ المَسْجِدَ الحَرَامَ إن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ}. اهـ.
وقال القاري في مرقاة المفاتيح: للتبرك، أو للتحقيق. اهـ.
وقال السندي في حاشيته على سنن ابن ماجه: للتبرك، لا للشك. اهـ.
ومن ذلك أيضا قوله -صلى الله عليه وسلم-: إني أطمع أن يكون حوضي -إن شاء الله أوسع مما بين أيلة إلى الكعبة. رواه الطبراني في مسند الشاميين، والبيهقي في الأسماء، والصفات، واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد.
والله أعلم.