الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلم يتضح لنا مراد السائل بالقدر الكافي! وعلى أية حال، فمثل هذه المسألة إنما هي من مسائل القضاء لا الفتوى؛ لكونها من قضايا المنازعات، ولتعلقها بمسائل مختلف فيها، فقد اختلف أهل العلم في حكم إجارة المالك للعين المؤجرة بعد قبض المستأجر لها، خلال مدة الإجارة، فمنهم من حرمه، ومنهم من أجازه، بحيث يقوم المستأجر الثاني مقام المالك في استيفاء الأجرة من المستأجر الأول.
قال المرداوي في الإنصاف: قال ابن عقيل في الفصول، أو الفنون: لا يتصرف مالك العقار في المنافع بإجارة، ولا إعارة، إلا بعد انقضاء المدة، واستيفاء المنافع المستحقة عليه بعقد الإجارة؛ لأنه ما لم تنقض المدة، له حق الاستيفاء، فلا تصح تصرفات المالك في محبوس بحق؛ لأنه يتعذر التسليم المستحق بالعقد. اهـ.
وجاء في الفتاوى الكبرى لابن تيمية: يجوز للمؤجر إجارة العين المؤجرة من غير المستأجر في مدة الإجارة، ويقوم المستأجر الثاني مقام المالك في استيفاء الأجرة من المستأجر الأول، وغلط بعض الفقهاء فأفتى في نحو ذلك بفساد الإجارة الثانية، ظنا منه أن هذا كبيع المبيع، وأنه تصرف فيما لا يملك، وليس كذلك، بل هو تصرف فيما استحقه على المستأجر. اهـ.
وكما اختلفوا في حكم ذلك، اختلفوا كذلك في ما يترتب عليه، فمنهم من يفسخ العقد فيما تصرف فيه المالك، ومنهم من يلزم المستأجر أجر جميع المدة، وله على المالك أجر المثل لما تصرف فيه بقسط ذلك مما على المستأجر من الأجر.
قال ابن قدامة في المغني: المستأجر يملك المنافع بالعقد، كما يملك المشتري المبيع بالبيع، ويزول ملك المؤجر عنها، كما يزول ملك البائع عن المبيع، فلا يجوز له التصرف فيها؛ لأنها صارت مملوكة لغيره، كما لا يملك البائع التصرف في المبيع، فإن تصرف فيها نظرنا؛ فإن كان ذلك في حال بدا للمستأجر قبل تقضي المدة، مثل أن يكتري دارا سنة فيسكنها شهرا ويتركها، فيسكنها المالك بقية السنة، أو يؤجرها لغيره، احتمل أن ينفسخ العقد فيما استوفاه المالك؛ لأنه يتصرف فيه قبل قبض المكتري له، فأشبه ما لو تلف المكيل قبل تسليمه، وسلم باقيه، فعلى هذا، إن تصرف المالك في بعض المدة دون بعض، انفسخ العقد في قدر ما تصرف فيه دون ما لم يتصرف فيه، ويكون على المستأجر ما بقي، فلو سكن المستأجر شهرا، وتركها شهرا، وسكن المالك عشرة أشهر، لزم المستأجر أجر شهرين، وإن سكنها شهرا، وسكن المالك شهرين، ثم تركها، فعلى المستأجر أجر عشرة أشهر، ويحتمل أن يلزم المستأجر أجر جميع المدة، وله على المالك أجر المثل لما سكن، أو تصرف فيه بقسط ذلك مما على المستأجر من الأجر، ويلزمه الباقي؛ لأنه تصرف فيما ملكه المستأجر عليه بغير إذنه، فأشبه ما لو تصرف في المبيع بعد قبض المشتري له، وقبض الدار ههنا قام مقام قبض المنافع، بدليل أنه يملك التصرف في المنافع بالسكنى، والإجارة، وغيرها، فعلى هذا، لو كان أجر المثل الواجب على المالك بقدر المسمى في العقد، لم يجب على المستأجر شيء، وإن فضلت منه فضلة، لزم المالك أداؤها إلى المستأجر، والأول أولى، وهو ظاهر مذهب الشافعي. اهـ.
وعليه؛ فلا بد من مراجعة الجهات المختصة في الفصل في مثل هذا، أو مشافهة أهل العلم بالمسألة ليسمعوا من الطرفين، ويستفصلوا عما ينبغي الاستفصال عنه.
والله أعلم.