الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد: فإن عذاب القبر ونعيمه وسؤال الملكين ثابت بنصوص الكتاب والسنة والإجماع وقد سبق بيان ذلك مفصلا في الفتوى رقم: 16778. أما عن كيفية السؤال والعذاب والنعيم فليس لنا الخوض فيها إذ ليس للعقل وقوف على كيفيته. قال ابن تيمية: وقد تواترت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثبوت عذاب القبر ونعيمه لمن كان لذلك أهلا، وسؤال الملكين، فيجب اعتقاد ذلك والإيمان به ولا نتكلم عن كيفيته إذ ليس للعقل وقوف على كيفيته لكونه لا عهد له به في هذه الدار، والشرع لا يأتي بما تحيله العقول ولكن قد يأتي بما تحار فيه العقول. اهـ. أما جواب المسلمين لسؤال الملكين فالظاهر من حديث البراء بن عازب في مسند أحمد أن كل مؤمن يقولها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن العبد المؤمن .. فتعاد روحه إلى جسده فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له من ربك فيقول ربي الله. الحديث. وكذلك في حديث أنس في الصحيحين إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه وإنه ليسمع قرع نعالهم أتاه ملكان فيقعدانه فيقولان ما كنت تقول في هذا الرجل لمحمد صلى الله عليه وسلم، فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله، فيقال له انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله به مقعدا من الجنة فيراهما جميعا. الحديث وراجع الفتوى رقم: 10565. أما عذاب القبر: فإن كل من مات وهو مستحق للعذاب ناله نصيبه منه إن لم يتجاوز الله عنه، ويكون عذاب القبر دائما على الكفار وبعض العصاة، ويكون منقطعا ممن خفت جرائمه قال الطحاوي: هل يدوم عذاب القبر أو ينقطع؟ نوعان، منه ما هو دائم كما قال تعالى: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ {غافر:46}. وفي حديث البراء قصة الكفار.. ثم يفتح له باب إلى النار فينظر مقعده فيها حتى تقوم الساعة. النوع الثاني يستمر مدة ثم ينقطع وهو عذاب بعض العصاة الذين خفت جرائمهم. اهـ. واعلم أن الذي يعرض عليه مقعده من النار بالغداة والعشي هو الكافر لقول الله تعالى: وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ*النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ {غافر: 45ـ46}. وللحديثين السابقين. أما دخول عصاة المسلمين الجنة وإن كانوا أصحاب كبائر فثابت بإجماع المسلمين وبالأحاديث المتواترة ويدل عليه أيضاً أحاديث الشفاعة. وراجع الفتاوى: 5398، 6571 ،40747.أما من التزم بالشرع ثم وقع في معصية ـ عدا الكبائر ـ ومات على ذلك فهو تحت مشيئة الله إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه، لهذا كان صالحوا هذه الأمة يخشون سوء الخاتمة ولا يفترون عن ذكر الموت مع ما هم عليه من الإيمان وكانوا يسألون الله التثبيت عند الموت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة. متفق عليه من حديث سهل بن سعد. وقد ذكر الحافظ ابن رجب الحنبلي في " جامع العلوم والحكم" عدة أحاديث بهذا المعنى، وقال: وقوله: في ما يبدو للناس: إشارة إلى أن باطن الأمر يكون بخلاف ذلك، وأن خاتمة السوء تكون بسبب دسيسة باطنة للعبد لا يطلع عليها الناس، إما من جهة عمل سيىء ونحو ذلك، فتلك الخصلة الخفية توجب سوء الخاتمة عند الموت، وكذلك قد يعمل الرجل عمل أهل النار وفي باطنه خصلة خفية من خصال الخير فتغلب عليه تلك الخصلة في آخر عمره فتوجب له حسن الخاتمة.. وفي الجملة فالخواتيم ميراث السوابق وكل ذلك سبق في الكتاب السابق، ومن هنا كان يشتد خوف السلف من سوء الخواتيم، ومنهم من كان يقلق من ذكر السوابق. اهـ. وأما الحكمة من ذلك فهي والله أعلم أن يبقى المرء متمسكاً بما أوجب الله عليه ، مبتعداً عما نهى الله عنه، مخلصاً في جميع أعماله لله، حتى الموت، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ {آل عمران:102}.