الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فلا يزال منكرو البعث يتوارثون باطلهم ذلك منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى عهدنا هذا، وقد دحض الله حججهم الباطلة في غير موضع من القرآن بأساليب وحجج متنوعة، من ذلك الاستدلال بأول خلق الإنسان فإن الذي خلقه أولاً قادر على أن يعيده ثانياً، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ إلى قوله تعالى: وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَّا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ {الحج}، فاستدل سبحانه بأول خلق الإنسان وابتدائهم وتصويرهم في الأرحام وتدبيرهم فيها وتصريفهم حالاً بعد حال فمن جعل النطفة إنساناً حياً عالماً ناطقاً فليس هذا أهون عليه من إعادته.
ومنها قوله تعالى: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ {يس:78}، إلى قوله تعالى: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ {يس:82}، ففي هذا إجمال لقدرة الله عز وجل، قال الإمام ابن كثير: يستبعدون ذلك وهذا إنما هو بعيد بالنسبة إلى قدرتهم العاجزة لا بالنسبة إلى قدرة الذي بدأهم وخلقهم من العدم. انتهى.
ومن الأدلة على البعث التي استخدمها القرآن الاستدلال بخلق المخلوقات العظيمة كالسماء والأرض فمن قدر على خلق هذه المخلوقات مع عظمها قادر على خلق الإنسان ثانية وإعادته بعد موته، كما قال الله تعالى: لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ {غافر:57}، ومن الأدلة كذلك ما يشاهد في حياة الناس من إحياء الموتى كإحياء الأرض بعد موتها وكإحياء من مات كما في سورة البقرة وتلك قصص وقعت في بني إسرائيل واليهود وأشد الناس خصومة للقرآن فلو لم تكن وقعت لسارعوا إلى تكذيب القرآن ورده ولكنهم يعلمون صحة ذلك ويتوارثونه جيل عن جيل فلا يستطيعون إنكاره.
أما احتجاجهم بالقدر وقولهم: لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا {الأنعام:148}، فهو احتجاج باطل لا حجة لهم فيه، إذ لو كان حجة لأحد في ذنب لكان حجة لإبليس وفرعون، قال ابن تيمية في منهاج السنة: فإن الاحتجاج بالقدر باطل باتفاق أهل الملل وذوي العقول وإنما يحتج به على القبائح والمظالم من هو متناقض القول متبع لهواه، كما قال بعض العلماء: أنت عند الطاعة قدري وعند المعصية جبري أي مذهب وافق هواك تمذهبت به، ولو كان القدر حجة لفاعل الفواحش والمظالم لم يحسن أن يلوم أحد أحداً ولا يعاقب أحد أحداً فكان للإنسان أن يفعل في دم غيره وماله وأهله ما يشتهيه من المظالم والقبائح ويحتج بأن ذلك مقدر عليه. انتهى، فعلم أن المحتج بالقدر على فعل الكفر متبع لهواه بغير علم، وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ {القصص:50}.
وننبه السائل إلى أن دفع الاحتجاج بالقدر لا ينافي الإيمان به بل لا بد من الإيمان بالقدر مع رد الاحتجاج به على فعل القبائح، لأن الله عز وجل لا يحب الفساد ولا يرضى لعباده الكفر ولا يأمر بالفحشاء، بل قال سبحانه: كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيٍّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا {الإسراء:38}، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: والله لا يأمر بالفحشاء ولا يحب الفساد ولا يرضى لعباده الكفر ولا يوجد من خطاب باطن ولا ظاهر للكفار والفساق والعصاة بفعل الكفر والفسوق والعصيان... وإن كان ذلك واقعاً بمشيئته وقدرته وخلقه وأمره الكوني فالأمر الكوني ليس هو أمراً للعبد أن يفعل ذلك الأمر بل هو أمر تكوين لذلك الفعل في العبد أو أمر تكوين لكون العبد على ذلك الحال... وليس في ذلك علم منه بأن الله أمره في الباطن بخلاف ما أمره في الظاهر، بل أمره بالطاعة باطناً وظاهراً ونهاه عن المعصية باطناً وظاهراً وقدر ما يكون فيه من طاعة ومعصية باطناً وظاهراً. انتهى.
والله أعلم.