الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فنقول للأخ السائل أولاً : تمهل ولا تعجل ، فالأناة من الرحمن ، والعجلة من الشيطان ، وبدلاً من كيل التهم فليكن الاستفسار والتبين فهذا أسلم للعاقبة ، ثم نذكره بقاعدة السلف في صفات الله تعالى وهي ( إمرارها كما جاءت بلا كيف ) روى ابن بطة في الإبانة : عن حنبل بن إسحاق قال : قلت لأبي عبد الله : ينزل الله تعالى إلى السماء الدنيا ؟ قال : نعم ، قلت : نزوله بعلمه أم بماذا ؟ قال : فقال لي : اسكت عن هذا ، وغضب غضبا شديدا ، قال ابن بطة : وقال مالك : ولهذا أمض الحديث كما روي بلا كيف .
وروى اللالكائي عن الوليد بن مسلم قال : سألت الأوزاعي وسفيان الثوري ومالك بن أنس عن هذه الأحاديث التي فيها ذكر الرؤية ـ يعني رؤية الله يوم القيامة ـ فقالوا : أمروها كما جاءت بلا كيف ، والآثار عن السلف في ذلك لا تحصى .
وأما حديث النزول فهو حديث صحيح رواه أصحاب الكتب التسعة كلهم عن أبي هريرة ولفظه : ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر يقول : من يدعوني فأستجيب له ، من يسألني فأعطيه ، من يستغفرني فأغفر له . فهذا النزول نزوله سبحانه حقيقة على الوجه اللائق بجلاله وكماله ، يدل على ذلك رواية مسلم وفيها : يقول : أنا الملك أنا الملك ، من ذا الذي يدعوني فأستجيب له . وهل يقول ملك من الملائكة : من يدعوني ، من يسألني ، من يستغفرني ؟ وتأويل حديث النزول بأن معناه نزول الملك أو الرحمة لا دليل عليه ، والتأويل إذا لم يستند إلى دليل كان تأويلا باطلا ، ومشتملا على محذورين : الأول : تحريف الكلم عن مواضعه ، والثاني : القول على الله بغير علم ، وقد تقدم الإنكار الشديد من الإمام أحمد على من قال له : بعلمه أم بماذا ؟
ثم إن هاهنا أمرا مهما وهو أن من تأول النزول على زعم أنه يلزم منه الحلول أو الزوال عن مكانه إنما أُتي من قبل وقوع المتأول في التشبيه لذلك قال من قال من السلف : إن كل معطل مشبه ، لذلك قال ابن بطة في الإبانة في رده على من قال إنه يلزم من القول بنزوله زواله : فقلنا : أو لستم تزعمون أنكم تنفون التشبيه عن رب العالمين ، فقد صرتم بهذه المقالة إلى أقبح التشبيه ، وأشد الخلاف ، لأنكم إن جحدتم الآثار وكذبتم بالحديث، رددتم على رسول الله قوله وكذبتم خبره ، وإن قلتم لا ينزل إلا بزوال فقد شبهتموه بخلقه وزعمتم أنه لا يقدر أن ينزل إلا بزواله على وصف المخلوق الذي إذا كان بمكان خلا منه مكان، لكنا نصدق نبينا ونقبل ما جاء به فإنا بذلك أمرنا ، وإليه ندبنا ، فنقول كما قال : ينزل ربنا عز وجل ، ولا نقول إنه يزول ، بل ينزل كيف شاء، لا نصف نزوله ولا نحده ولا نقول إن نزوله زواله أهــ .
وأما الرواية المذكورة بالسؤال فقد رواها أيضا النسائي في السنن الكبرى ، وقد حكم بعض أهل العلم بأنها منكرة ، انظر سلسلة الأحاديث الضعيفة للألباني ، الجزء الثاني ، الحديث رقم ( 3897 ) ، وعلى فرض صحتها فهي لا تعارض الروايات الأخرى ، فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى: فإن قيل : فقد روي أنه يأمر مناديا فينادي ؟ قيل : هذا ليس في الصحيح ، فإن صح أمكن الجمع بين الخبرين بأن ينادي هو، ويأمر مناديا ينادي، أما أن يعارض بهذا النقل النقل الصحيح المستفيض الذي اتفق أهل العلم بالحديث على صحته وتلقيه بالقبول مع أنه صريح في أن الله تعالى هو الذي يقول : من يدعوني فأستجيب له ، من يسألني فأعطيه ، من يستغفرني فأغفر له، فلا يجوز أهــ .
وأما القول بأن النزول ينافي العلو فهو قول مفترض في نزول تعلم كيفيته وهو نزول المخلوق ، وأما نزول الرب تبارك وتعالى فلا يعلم كيف هو حتى يقول فيه قائل ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه درء تعارض العقل والنقل: وروى أبو اسماعيل الأنصاري بإسناده عن حرب الكرماني قال : قال إسحاق بن إبراهيم بن راهويه : لا يجوز الخوض في أمر الله تعالى كما يجوز الخوض في فعل المخلوقين؛ لقوله تعالى : لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ، ولا يجوز لأحد أن يتوهم على الله تعالى بصفاته وأفعاله ، يعني كما نتوهم فيهم ، وإنما يجوز النظر والتفكير في أمر المخلوقين ، وذلك أنه يمكن أن يكون الله موصوفا بالنزول كل ليلة إذا مضى ثلثها إلى السماء الدنيا كما يشاء ، ولا يسأل كيف نزوله ، لأن الخالق يصنع ما يشاء كما يشاء . أهـ .
ولو كان اعتقاد الصحابة غير ظاهر الحديث على ما يليق بجلال الله سبحانه وتعالى لبينوه لنا فكيف يليق بهم أن يتركوا بيان أمر كهذا، فلما لم يتكلموا بتأويله علمنا أنهم أجروه على ظاهره؛ وإلا كانوا قد كتموا ما أمروا ببيانه وتبليغه، وحاشاهم من ذلك .
والله أعلم .