الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يمن عليك بالشفاء عاجلاً غير آجل، وأن يشرح صدرك وينور قلبك ويرزقك الراحة والطمأنينة، واعلمي أيتها الأخت الفاضلة أن الله رحيم بعباده، وشرع لهم دينا سهلاً ميسراً يناسب جميعهم.
والشيطان الرجيم اللعين هو الذي يسعى جاهداً في التضييق عليهم وإدخال الحرج والمشقة عليهم بالوسوسة التي هي مرض يعتري الشخص، ويأتي إليه بصورة أفعال وأفكار تتسلط عليه وتضطره لتكرارها، وإذا لم يكرر الفعل أو يتسلسل مع الفكرة يشعر بتوتر وضيق وعدم صحة ما فعل، ولا يزول هذا التوتر إلا إذا كرر الفعل، وتسلسل مع الفكرة، فهو إذاً المبالغة الخارجة عن الاعتدال، فقد يفعل الأمر مكرراً له حتى يفوت المقصد منه، مثل أن يعيد الوضوء مراراً حتى تفوته الصلاة، ويعيش في ضيق وكرب، وربما ترك العمل بالكلية وهذا هو هدف الشيطان من تلك الوسوسة، وللتغلب على هذه الوساوس عليك بفعل الآتي:
1- الالتجاء إلى الله تعالى بصدق وإخلاص في أن يذهب الله عنك هذا المرض، نادي ربك وخاطبيه وثقي به فهو كاشف الهم ومزيل الكرب.
2- الإكثار من قراءة القرآن والمحافظة على الذكر لا سيما أذكار الصباح والمساء، وأذكار النوم والاستيقاظ، ودخول المنزل والخروج، ودخول الحمام الخروج منه، والتسمية عند الطعام والحمد بعده وغير ذلك، وننصحك بشراء كتاب الأذكار للإمام النووي ومعاودة القراءة فيه دائماً.
3- الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم والانتهاء عن الاسترسال مع خطواته الخبيثة في الوسوسة، وهذا من أنفع الأدوية لإذهاب الوسواس وعلاجه؛ كما هو مجرب، وقد جاء عن بعض الصالحين الذين ابتلوا بالوسواس أنه كان يقول للشيطان إذا وسوس له بعدم صحة وضوئه أو صلاته يقول له: لا أقبل منك حتى تأتيني بشاهدي عدل على ما تقول. فأعظم العلاج للوسواس هو الإعراض عنه وعدم تصديقه، فلو وسوس لك بأن وضوءك انتقض فلا تلتفتي إليه، وإذا خيل لك الإحساس بنزول سائل فلا تقبلي منه، واسمعي لحديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يأتي أحدكم الشيطان فيقول: من خلق كذا وكذا؟ حتى يقول له: من خلق ربك؟ فإذا بلغ ذلك فليستعذ بالله ولينته.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن للشيطان لمة بابن آدم، وللملك لمة، فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق، وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله فليحمد الله، ومن وجد الأخرى فليتعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ثم قرأ: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء. رواه الترمذي.
وعن عثمان بن أبي العاص قال: يا رسول الله إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي يلبسها علي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه، واتفل على يسارك ثلاثاً، قال: ففعلت ذلك فأذهبه الله عني. رواه مسلم.
فأرشد النبي صلى الله عليه وسلم من ابتلي بهذه الوسوسة إلى الإعراض عن هذا الخاطر الشيطاني، والالتجاء إلى الله تعالى في إذهابه، وترك الاسترسال معه، فالتمادي في الوسوسة لا يقف عند حد، فلا تظنين أن علاج الوسواس هو تكرار الفعل بل المطلوب هو البقاء على الأصل، ومن ذلك أن الأصل بقاء الطهارة فلا تزول إلا بيقين، وقد تقرر عند العلماء أن اليقين لا يزول بالشك، ويدل على ذلك الحديث الذي ذكرتِه في سؤالك وهو دال على أنك لا تنصرفين من صلاتك ولا تحكمين بنقض طهارتك لمجرد الإحساس بخروج الريح أو السائل حتى تتيقني من ذلك تماماً، وإلا فأعرضي عن هذا الشعور والإحساس، وقد سئل ابن حجر الهيتمي رحمه الله عن داء الوسوسة هل له دواء؟ فأجاب: له دواء نافع وهو الإعراض عنها جملة كافية، وإن كان في النفس من التردد ما كان، فإنه متى لم يلتفت لذلك لم يثبت، بل يذهب بعد زمن قليل، كما جرب ذلك الموفقون، وأما من أصغى إليها وعمل بقضيتها فإنها لا تزال تزداد به حتى تخرجه إلى حيز المجانين، بل وأقبح منهم، كما شاهدناه في كثيرين ممن ابتلوا بها وأصغوا إليها وإلى شيطانها.... وجاء في الصحيحين ما يؤيد ما ذكرته وهو أن من ابتلي بالوسوسة فليستعذ بالله ولينته.
فتأملي هذا الدواء النافع الذي علمه من لا ينطق عن الهوى لأمته، واعلمي أن من حرمه حرم الخير كله، لأن الوسوسة من الشيطان اتفاقاً، واللعين لا غاية لمراده إلا إيقاع المؤمن في هذه الضلالة والحيرة ونكد العيش وظلمة النفس وضجرها إلى أن يخرجه من الإسلام وهو لا يشعر. إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ {فاطر:6}، ولا شك أن من استحضر طرائق رسل الله سيما نبيناً صلى الله عليه وسلم وجد طريقته وشريعته سهلة واضحة بيضاء بينة، سهلة لا حرج فيها. وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ {الحج:78}، ومن تأمل ذلك وآمن به حق إيمانه ذهب عنه داء الوسوسة والإصغاء إلى شيطانها... وذكر العز بن عبد السلام وغيره نحو ما قدمته فقالوا: داء الوسوسة أن يعتقد أن ذلك خاطر شيطاني، وأن إبليس هو الذي أورده عليه، وأن يقاتله فيكون له ثواب المجاهد، لأنه يحارب عدو الله، فإذا استشعر ذلك فرَّ عنه، وأنه مما ابتلي به نوع الإنسان من أول الزمان، وسلطه الله عليه محنة له ليحق الله الحق ويبطل الباطل ولو كره الكافرون... وبه تعلم صحة ما قدمته أن الوسوسة لا تسلط إلا على من استحكم عليه الجهل والخبل وصار لا تمييز له، وأما من كان على حقيقة العلم والعقل فإنه لا يخرج عن الاتباع ولا يميل إلى الابتداع... ونقل النووي عن بعض العلماء أنه يستحب لمن بلي بالوسواس في الوضوء أو الصلاة أن يقول: لا إله إلا الله. فإن الشيطان إذا سمع الذكر خنس، أي تأخر وبعد، ولا إله إلا الله رأس الذكر. انتهى.
ومن أعظم الأسباب لعلاج الوسوسة هو مجالسة الصالحين وحضور مجالس العلم، والحذر من مجالسة أصحاب السوء أو الانفراد والانعزال عن الناس، ومن طرق العلاج أيضاً عرض موضوعك على أحد المشايخ أو طلبة العلم في بلدك والأخذ بنصائحه وتوجيهاته، وفقنا الله وإياك لما يحبه ويرضاه.
والله أعلم.