الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فإن من كمال الله تعالى أنه ما خلق شيئًا عبثًا، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا، وإنما يخلق لحكم بالغة، ومصالح راجحة، علمها من علمها، وجهلها من جهلها، يقول الله سبحانه وتعالى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ [الأنبياء:16]، ويقول سبحانه وتعالى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [الدخان:38-39]، ويقول سبحانه وتعالى: حم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمّىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ [الأحقاف: 1-3].
والإنسان من جملة ذلك الخلق، ولولا أنه خلقه لتلك الغاية السامية، التي هي عبادته؛ لكان خلقه له عبثًا، وسدى، تعالى الله عن ذلك، وقد نزّه الله نفسه عن ذلك، فقال: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ [المؤمنون:115-116].
كما أنه لو خلق الإنسان لغير العبادة، لكان مثل البهائم، يعيش هملًا -يأكل ويشرب ويتكاثر-، ولا يخفى ما في ذلك من الإهانة للإنسان نفسه، والمنافاة لحكمة العليم الحكيم.
فالحاصل؛ أن الله تعالى ما خلق الإنسان عبثًا، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا، وإنما خلقه لعبادته، والتقرب إليه سبحانه.
وفي خلقه له لذلك الغرض، وتلك الغاية السامية، حكم أخرى كثيرة، منها: ابتلاء أخبارهم، وإظهار أبرارهم من أشرارهم، فمن عمل لما خلق له، فهو من الأبرار، وصار أهلًا لدخول جنات تجري من تحتها الأنهار، ومن أعرض عما خلق له، فهو من الأشرار الفجار، الذين استحقوا الخلود في النار.
ومنها: إظهار أسماء الله الحسنى، وصفاته العلا، فمن عمل لما خلق له، جازاه الله بالحسنى، وتفضل عليه، وغفر له زلاته، وعفا عن هفواته، وأسكنه فسيح جناته بعد مماته، فيظهر بذلك أثر كرم الله تعالى، وتفضله، وإحسانه، وعفوه، ومغفرته سبحانه وتعالى.
ومن أعرض عما خلق له، استحق عقاب الله تعالى، وانتقامه منه؛ لتنكره لخالقه، ورازقه، والمنعم عليه، ولإعراضه عما خلقه له، فإذا انتقم منه لذلك، وعاقبه، ظهر أنه الجبار المنتقم شديد العقاب.
ومنها: تشريف الإنسان، وتكريمه؛ بإظهار كمال عبوديته لله تعالى، فلا شيء أشرف للإنسان من أن يكون عبدًا محضًا لله تعالى وحده، يأتمر بأمره، وينتهي بنهيه، ويتوجه بتوجيهاته، ويسير على صراطه المستقيم، لا نصيب لغير الله تعالى فيه، قال الله تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:29]، إلى غير ذلك من الحكم الكثيرة، التي يطلع أولو الألباب على كثير منها، ويخفى عليهم الكثير.
وعلى كل حالٍ؛ فالواجب على المرء أن يعلم أن الخالق المتفرد بالخلق وحده، له أن يخلق ما يشاء لما يشاء، لا يسأل عما يفعل سبحانه وتعالى، ومن اعترض، أو تعقب، فهو الظالم المبين.
والله أعلم.