الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فجزاك الله خيرا على تحريك للحلال ونسأل الله أن يهدي والدكم ويتوب عليه، فإن منع الزكاة وأكل الربا من عظائم المحرمات، وقد جاء فيهما من الوعيد ما تقشعر له الأبدان، وقد بينا بعض ذلك في الفتويين رقم: 8026، 18988.
وأما بخصوص السؤال.. فإذا كان لا يغلب على ظنك بعد الاجتهاد والتحري أن ما بيد والدك من مال مستغرق بالزكاة والفوائد الربوية فلا يلزمك ترك تملك هذه الشقة لأن مال والدك حينئذ مختلط بين الحلال والحرام، ومن كان ماله كذلك فلا تحرم قبول هبته، فقد عامل النبي صلى الله عليه وسلم اليهود وقبل هداياهم مع ما ذكر الله عنهم من أكل الربا والتعامل بالسحت.
أما إذا كان يغلب على ظنك أن مال والدك مستغرق بالزكاة والفوائد الربوية فإنه يحرم عليك تملك هذه الشقة لأن الواجب على والدك في ماله أن يصرفه في مصارف الزكاة ومصالح المسلمين، وإذا كان فقيرا فله أن يأخذ منه بوصفه فقيرا قدر ما تندفع به حاجته إلى مظنة اليسار.
يقول ابن رشد بعد كلام له في معاملة حائز المال الحرام: وسواء كان له مال سواه أو لم يكن لا يحل أن يشتريه منه إن كان عرضا ولا يبايعه فيه إن كان عينا ولا يأكل منه ن كان طعاما ولا يقبل شيئا من ذلك هبة، ومن فعل شيئا من ذلك وهو عالم كان سبيله سبيل الغاصب في جميع أحواله.
والحل الشرعي في نظرنا يتمثل في أمرين.. أحدهما يتعلق بوالدك، والثاني يتعلق بك.
أما الأمر الاول الذي يتعلق بوالدك فهو أن تحاول إقناع الوالد ودعوته إلى الله ولو بتوسيط أحد من أهل الخير والصلاح، فإن تاب وأناب فإن من أهل العلم من يرى أنه يكفيه التوبة ولا يلزمه أن يتخلص من شيء من المال، وإلى هذا ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية كما بيناه في الفتوى رقم:57390، وهذا وإن كان مرجوحا لدينا فلا مانع من أن يُفتى به الوالد تحريضا له على التوبة، قال الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين رحمه الله في جوابه عمن سأله: هل يجوز للإنسان في مسائل الخلاف أن يفتي لشخص بأحد القولين، ولشخص آخر بالقول الثاني؟
قال: إن كان في المسألة نص كان الناس فيه سواء، ولا يفرق بين شخص وآخر، وأما المسائل الاجتهادية فإنها مبنية على الاجتهاد وإن كان الاجتهاد فيها في الحكم فكذلك في محله، فإذا كانت حال المستفتي أو المحكوم عليه تقتضي أن يعامل معاملة خاصة عمل بمقتضاها ما لم يخالف النص.
وأما الأمر الثاني الذي يتعلق بك فهو أن تأخذ بالعزيمة وهو الراجح في المسألة المطروحة، وألا تقبل تملك الشقة المذكورة بل تحتفظ بها في يدك لمصلحة المسلمين، ولا حرج أن تخفي ذلك في نفسك حتى تستطيع إظهاره ولو بعد حين، ولا مانع في هذه الحالة من أن تسكن فيها كما تسكن في غيرها بالإيجار وتخرج ما يمكنك وتستطيعه من أجرة مناسبة وتصرفها في مصالح المسلمين، فبهذا يمكن الجمع بين ثلاثة أمور:
الأول: العمل بما تراه ونراه راجحا.
الثاني: ما فيه مصلحة للمسلمين لأن تأجير هذه الشقة الفاخرة وصرف أجرتها للفقراء ينتفعون بها فيه مصلحة ظاهرة للمسلمين، وهو أولى من بيعها وتوزيع ثمنها على الفقراء، فينتهي بذلك مصدر دخل يمكن أن يدر عليهم الكثير.
الثالث: درء مفسدة غضب الوالد وحزنه حزنا قد يضر به وبحياته.
ونسأل الله لنا ولك التوفيق والسداد.
والله أعلم.