تأملت الواقع الذي نعيشه بآلامه وأحزانه، وكثرة ما ألم بالنفوس من الهم واستبطاء الفرج في كل مكان، وعلى كل حال، فقلت صدق الله: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ}(الذاريات: 10).
قال ابن عباس: "أي لعنوا المرتابون".
وقال مجاهد: "أي الكذابون".
وقال قتادة: "الخراصون أهل الفرية والظنون" كما نقل ذلك ابن كثير –عليه رحمة الله-.
إن ذلك الطابور الخامس الذي يعصف في أوتار الأمة اليوم، الذي لا يزال أحفاد ابن سلول، وأحفاد ابن سبأ؛ يتناوبون مع مر الزمن.
ابن سبأ الصفافي الأصل اليهودي، أظهر الإسلام في زمن عثمان، فمضى بين الأقطار، استغل جهازه الإعلامي، متراميا بين الحجاز والبصرة والكوفة، ثم ذهب إلى الشام، فلم يستجب له أحد، فنزل أرض مصر، فبث سمومه، وأوغر في النفوس، وقلب الصفوف.
{قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} بدأ بالكذب، ونشر السموم، وقلب الناس على عثمان -رضي الله عنه- وعلى تقديس علي -رضي الله عنهما-، فوقعت الفتنة التي لا تخفى.
{قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} عندما تقلب أوراق التاريخ ترى بعين البصيرة، أثر أهل التخاذل، وبث روح الهزيمة في أوساطنا الداخلية؛ إنها الكلمة على أي منبر أعلنت، على إعلامنا المرئي أو المسموع، أو المقروء.
ماذا قال عبد الله بن سلول؟ تأمل أسلوب التهديد في زمن من؟ وبين من؟ والوحي يتنزل من السماء، قام عبر وسائله، قائلا: {لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ}(المنافقون: 8).
هذه كلمات المتخاذلين والمخذلين: {لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ}(التوبة: 81).
{إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} (الأعراف: 82).
فرد الله عليهم، وعلى أمثالهم في كل زمن وعصر: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ}(المنافقون: 8).
{قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} ماذا قال المنافق قبل كل هذا؟
تأملوا -عباد الله-: الواقع التي تمر به الأمة اليوم، حتى ندرك أن هناك طوائف من بني جلدتنا، يؤاكلوننا ويشاربوننا، ويخرجون بزينا، ولكنهم بين دفتي الحقيقة ينطبق فيهم: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ}.
ماذا قال من عبارة التخذيل وتخذيل الأمة عن الخير؟ {لَا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا}(المنافقون: 7).
فجاء الجواب من عند الله: {وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ}(المنافقون: 7).
لئن تخاذلت أمة عن أمة، لئن تخاذل القوي عن الضعيف، ولئن تخاذلنا عن نصرة المظلوم، ولئن تخاذلنا، ولئن تخاذلنا عن إغاثة المحتاجين والأرامل والمحتاجين، والمرشدين، لئن تخاذلنا يوم...، لئن منعت قنوات الإغاثة والتواصل والخير في أي بلد، وأي مكان، فجاء الجواب من الله: {وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (المنافقون: 7).
ليست هي خزائن الدول، ولا ثروات الشعوب، إنما هي خزائن علام الغيوب، يصرفها عمن يشاء، يهبها لمن يشاء، يعطيها من يشاء، يعز فيها من يشاء، ويذل فيها من يشاء.
هو سبحانه بيده الخير، كم من عزيز قوم ذل، وكم من قوي ضعف، وكم من بلدة ومدينة ودولة كانت قوية يستعصم بها الفقراء، ويستقوي بها المستضعفون، فبدل الله -جل وعلا- أحوالها، وقلب الله ميزانها.
{قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} إنهم بطانة السوء التي تصد عن كل شيء من الخير، إنها التي تصدر الضلال والإضلال؛ تنشر الرذيلة، وتشيع الفاحشة، وتروج للهرج.
إنهم بطانة الهلاك والإهلاك في كل زمان؛ عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما استخلف خليفة إلا له بطانتان بطانة تامره بالخير، وتحضه عليه، وبطانة تامره بالشر وتحضه، فالمعصوم من عصمه الله"(رواه أحمد في المسند).
ففي عام 218 هـ ولي المعتصم الخلافة، وكانت أمه تركية، فماذا فعل المعتصم؟
اعتمد على الأتراك، جعلهم حراسه، وجعلهم أهل مناصبه، وجعلهم قمة دولته، أسندت إليهم المناصب في الدولة، فماذا فعل الأتراك بالمعتصم؟ وماذا كان منهم عليه؟
إن المناصب عندما تحوزها فئة، وتصبح مليئة بالعنصرية، فقل: عليها السلام.
{قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} إن السقوط الذي أصبنا به اليوم في أمتنا الإسلامية، تجيب عنه امرأة تسطر تاريخا مليء بالصدق في عباراتها وكلمتها، سألت إحدى النساء في زمن بلاد الأندلس: ما الذي أصبنا به من هذا الانهدام؟ فقالت: "دخلنا الأندلس بشجاعة وفداء طريف بن مالك، وعزيمة طارق بن زياد، وإيمان موسى بن نصير، وطموح عبد الرحمن الغافقي، وبطولة السمح بن مالك الخولاني، وتجدد الإسلام فيها بنجدة ومتانة عقيدة يوسف بن تاشفين.
بقينا بالأندلس ما بقينا مع الله، وضاعت الأندلس؛ لما أضعنا طريق الله!.
إننا إن أردنا ملك هذه الأرض التي يورثها الله لمن يشاء من عباده، فليكن طريقنا مع الله، وليكن منهجنا مع الله، وليكن حالنا مع الله، بقينا في الأندلس بهمة عبد الرحمن الداخل الذي لما قدمت له الخمر تأملوا -عباد الله-: هذا المثل بقينا في الأندلس لما قدمت الخمر إلى عبد الرحمن الداخل، فقال: "ما الذي تقدمون لي؟" قالوا: "هذه الخمر" قال: "إنني محتاج إلى ما يزيد عقلي لا إلى ما ينقص عقلي": {وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيمًا}(النساء: 27).
إن أهل المغريات والشهوات والملذات لا يفرحون إلا حين يشغلوننا بقنوات الدعارة، وقنوات المجون، وتسويق البذاءة، وإسقاط شبابنا، وإسقاط ديننا، حين تنهزم المرأة، ويضل الأب، وتنحرف الأم، ويضيع التعليم، ويضيع التوجيه، وتحبس الدعوة، وتمنع أنشطة الخير، فقل: على الأمة السلام!.
{قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} الكلمة اليوم إن كانت بالسموم معمورة، فماذا تنتظرون؟ ماذا ننتظر؟
إن العقائد والأفكار والمناهج، والطرق المستوردة؛ تنخر الأمة، فبدل أن تنشغل الأمة ببناء الرموز، وصناعة القادة، وغرس الثقة بالعلماء والدعاة، والأمراء، وصناعة جيل قادر مليء بالإبداع، إذا بها تهدم ذلك كله؛ إن رأيت أمة تنشغل بإسقاط رموزها، فقل على الأمة السلام!.
يوم أن يتجه الإعلام المأجور، والكتاب المستأجرون، لكي يسقطوا رموز الأمة، فقل على الأمة السلام.
يوم يصبح الخراصون هم الذين يملكون منبر توجيه الأمة، فقل على الأمة السلام!.
بماذا وصفهم ربنا -تعالى- المعوقين؟
وصفهم بقوله: {لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ}(المنافقون: 5).......
إن الذين لا يعرفون إلا نشر الرذيلة، وتصيد الأخطاء، ينطبق فيهم قول القائل:
وعين الرضا عن كل عيب كليلة *** ولكن عين السخط تبدي المساويا
{قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} إن الذي يتجه إلى الرذيلة فرقتهم الأموال، وأدارت فكرهم الدنيا.
الدنيا المسعورة التي تفعل الأفاعيل، ما رأينا -عباد الله- من يعالج قضايا المساجد!.
ما رأينا من يعالج قضايا قلة المصلين!.
ما رأينا مشكلة المسكرات!.
الابتزاز الذي أصبح مسعورا اليوم عبر قنوات التواصل!.
ماذا نقول للرذيلة التي بدأت تغمر جيلا لم يبلغ السن والعقل والإدراك؟!
ماذا نقول لمن يعالج قضايا هي من أبسط قضايانا، ولكنها أصابتنا بالفرقة والخلاف؟!
{قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} بكلماتهم وعباراتهم.
أيها المسلمون: ماذا قال ربنا -تعالى- مبينا لنا هؤلاء الناس: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ}(المنافقون: 4).
اكتشفهم قبل أن تسقط في شباكهم يوما .
ولعلك تنظر بنظرة إلى واقع الهرج والقتل والتشريد؛ لما يمر بإخواننا في سوريا والعراق، وفي مصر وفي فلسطين، وما ترى الواقع الأليم اليوم في اليمن.
{قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} إن أمتنا اليوم بحاجة إلى التماسك والتعاطف.
إن صفنا اليوم المسلم ينبغي أن يكثر فيه المثبتون لا المثبطون.
إن الصف المسلم اليوم ينبغي أن يكثر فيه من يجمع الكلمة، لا يفرق الصفوف: "لتسوون صفوفكم، أو لخالفن الله بين قلوبكم".
معاشر المسلمين: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا}(آل عمران: 103).
قال الله -تعالى-: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا * أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاء الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا}(الأحزاب: 18-19).
قال الإمام القرطبي -عليه رحمة الله-: {أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ} أي بخلاء عليكم بالحفر في الخندق والنفقة في سبيل الله –تعالى-".
هذا هو حالهم ينتظرون النجاح حتى يقطفوه، ولكن يوم تكون الأمة في أزمتها تدني الركب عند العلماء، وتأخذ الرأي من الحكماء، يوم تكون الأمة في بساط التوجيه والتعليم تنتظر الرأي من أهل الرأي، ولكن حين يأتي الأمن ويذهب الخوف؛ ينقلب القوم على من أعانهم، إنه العقوق للأوفياء
{بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ}. يقول القرطبي -رحمه الله-: "أي بالغوا في مخاصمتكم والاحتجاج عليكم".
وقال آخر: "آذوكم بالكلام الشديد".
يا الله ما أعظم كلامك الذي غفلنا عنه، فلا قنوات إخبار، ولا أخبار، ولا تحاليل ولا محللين.
القرآن الذي هجرناه كشف لنا حقيقتهم، كشف لنا واردهم وموردهم، كشف لنا سرهم وعلانيتهم.
{قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} {أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ} شعارهم، هم: {لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ}.
معاشر من آمن: استدركوا حياتكم قبل الرحيل، وعقولكم قبل أن تسافر، وأفكاركم قبل أن تستعمر، وألسنتكم قبل أن تستأجر، وأقلامكم قبل أن يكون الحبر من غيركم.
أيها المسلمون: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} ما أعظم الرسائل التي تهدم الأمة، وتبث السموم بين قلوب أهلها.
إنها نصيحة أخيرة: يتناقل الناس كلمات وأقوال، ورسائل ومنشورات؛ تهدم بناء الأمة ولا تعمرها، تقتل الأخوة، ولا تحفظ صفاءها وثباتها.
فالحذر الحذر لا تنقل ما لا تعلم، ما لم تستوثق قوله لا تنشره، وما لم تعلم مصدره، والقول ما قال: "حدثنا" فإياك أن تنقله.
الحذر ثم الحذر -معاشر المسلمين-: من خلافات وشجارات، وقعت بين الأسر والأخوة والأصفياء والأقارب والأرحام، كلها خرص في خرص، وإفك في إفك، وتدنيس للفضيلة، ونشر للرذيلة، كل رسالة ترسلها يحاسبك عليها ربك يوم تبلى السرائر، وكل كلمة تقولها وتكتبها محاسب عليها في يوم: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ}(الصافات: 24).
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
- الكاتب:
د. إبراهيم بو بشيت - التصنيف:
مساوئ الأخلاق