الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

عرفة.. خير أيام الدنيا

عرفة.. خير أيام الدنيا

عرفة.. خير أيام الدنيا

يوم عرفة من أيام الله المباركة، وأيامه المعدودة المشهودة التي تضافرت النصوص من الكتاب والسنة على فضله، فهو ركنُ الحج الأعظم، وهو خير أيام الدنيا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما مِن يومٍ أفضلُ عندَ اللهِ من يومِ عرفة)(رواه ابن حبان)

أقسم الله به في كتابه: مرة في سورة الفجر مع الليالي العشر، {وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2)} [الفجر:1، 2]، فهو أحد العشر، وهو الوتر في قوله: {وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ}[الفجر:3]، قال ابن عباس، وعكرمةُ والضحاك وعطاء بن أبي رباح: "الشفعُ يومُ النحر، والوترُ يوم عرفة".
وهو اليوم المشهودُ في قوله تعالى: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3)}[البروج:1ـ3]، قالوا: اليوم الموعود: يوم القيامة، والشاهد: يوم الجمعة، والمشهود: يوم عرفة.

وهو يوم مبارك، أكمل الله لنا فيه الدين، وأتم علينا فيه النعمة: ففي الصحيحين عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أن رجلا من اليهود قال له: يا أمير المؤمنين آية في كتابكم تقرؤونها، لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدا. قال : أي آية؟ قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة:5]. قال عمر رضي الله عنه: قد عرفنا ذلك اليوم الذي نزلت فيه على النبي صلى الله عليه وسلم وهو قائم بعرفة يوم الجمعة. وفي رواية: وكلاهما بحمد الله لنا عيد.

وهو ركن الحج الأكبر.. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الحَجُّ عَرفةُ)[رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه]، أي أنه الركن الذي لا يتم إلا به.

في هذا اليوم يخرج الحجيج إلى الله تبارك وتعالى شعثا غبرا ضاحين، جاءوا من كل فج عميق، يعلنون توحيده، ويظهرون تمجيده، ويكثرون ذكره وتكبيره وتهليله وتحميده، ويتعرضون لرحمته ومغفرته، ويسألونه العفو، ويجأرون إليه أن يعتق رقابهم من النار.

فيباهي بهم سبحانه ملائكة السماء، ويقول: (انظروا إلى عبادي، جاؤوني شعثاً غبراً ضاحِين، جاؤوا من كل فج عميق، يرجون رحمتي، ولم يروا عقابي) [رواه ابن خزيمة وابن حبان والبزار والبيهقي عن جابر].

ويتفضل عليهم برحمته ويتكرم عليهم بالعفو والمغفرة كما جاء في حديث ابن عمر: (فلو كان عليهم مثل رمل عالج، أو مثل أيام الدنيا، أو مثل قطر السماء ذنوبًا، غسلها الله عنهم)رواه عبد الرزاق في مصنفه.

ويتعاظم فضل الكريم سبحانه فيعتق رقابهم من النار، كما روى مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من يوم أكثر أن يعتق الله فيه عبيداً من النار من يوم عرفة).
إن الملوك إذا شابت عبيدهم .. .. في الــرق عتقــوهــم عتـق أبــرار
وأنت يا سيدي أولى بذا كرما . . قد شبت في الرق فاعتقني من النار

وفي الأثر"وما رُئِيَ الشيطانُ يومًا هو فيه أصغرُ، ولا أحقرُ، ولا أدحرُ، ولا أغيَظُ منه في يومِ عرفةَ، وما ذلك إلَّا لِمَا رأى مِن تنزُّلِ الرحمةِ، وتجاوُزِ اللهِ عَنِ الذنوبِ العِظامِ، إلَّا ما رأى يومَ بدرِ، قيل: وما رأى يومَ بدرٍ يا رسولَ اللهِ؟ فقال: أَمَا إنه رأى جبريلَ يَزَعُ الملائكةَ هكذا". رواه البيهقي عن طلحة بن عبيد الله.

فإذا غربت الشمس وأفاض الناس من عرفة إلى مزدلفة، جاءهم العفو العام فيقول تعالى لهم: (فلو كانت ذنوبكم كعدد الرمل، وكعدد القطر، وكزَبَد البحر، لغفرتُها، أفيضوا عبادي مغفوراً لكم، ولمن شفعتم له). "التمهيد لابن عبد البر".

فستغرب شمس هذا اليوم على أناس قد غفر الله لهم جميع ما سبق من ذنوبهم، ويقول: استأنفوا العمل فإني قد غفرت لكم ما مضى.

وستغرب شمس عرفة على أناس قد أعتق الله رقابهم من النار فلن يدخلوها أبدا، فهم يمشون على الأرض وإنهم لمن أهل الجنة.

وستغرب شمس هذا اليوم على أناس قد كتب الله السعادة فلا شقاء يصيبهم بعدها أبدا.

وستغرب شمس عرفة على أناس في بيوتهم قد غفر الله لهم، وأعتق رقابهم، بشفاعة أهل الموقف فيه، كما في الحديث (أفيضوا مغفورا لكم، ولمن شفعتم فيه). فاللهم اجعلنا منهم.

صيام يوم عرفة
وإن من فضائل يوم عرفة أن الله جعل ثواب صيامه أعظمَ صيامِ يومِ نفلٍ على الإطلاق، ففي صحيح مسلم عن أبي قتادة قال صلى الله عليه وسلم: (صيامُ يومِ عَرفةَ إنّي أحْتسبُ على اللهِ أن يُكفّرَ السنَةَ التي بعدهُ، والسنةَ التي قبلهُ).

يوم الدعاء
ويوم عرفة يوم الدعاء، ويوم الإجابة، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (حسن، رواه الترمذي).
فإن قال قائل: هذا ثناءٌ وليس دعاء؟ قلنا ما قاله سفيان بن عيينة رضي الله عنه حينما سئل نفس السؤال، فقال: أما سمعت قول الشاعر :
أأذكر حاجتي أم قد كفاني .. .. حياؤك إن شيمتك الحياء
إذا أثنى عليك المرء يوما .. .. كفــاه من تعـرضه الثناء

فينبغي على المسلم أن يكثر في هذا اليوم من الدعاء ويكثر من الاستغفار؛ فإنه يوم العتق من النار، ويكثر من التضرع والخشوع وإظهار الضعف والافتقار، والتذلل وتفريغ الباطن والظاهر من كل مذموم، ويلح في الدعاء على الله تبارك وتعالى كثيرا لأنه يوم ترجى فيه الإجابة، ويرفع يديه متذللا مفتقرا، قال ابن عباس: (رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يدعو ويداه إلى صدره كاستطعام المسكين) [رواه أبو داوود].

اللهم إنك تسمع كلامنا، وترى مكاننا، وتعلم سرنا وعلانيتنا، ولا يخفى عليك شيء من أمرنا، نحن البؤساء الفقراء، المستغيثون المستجيرون، المشفقون الوجلون، المقرون المعترفون بذنوبنا، نسألك مسألة المسكين، ونبتهل إليك ابتهال المذنب الذليل، وندعوك دعاء الخائف الضرير، دعاء من خضعت لك رقبته، وذل لك جسمه، ورغم لك أنفه، وفاضت لك عيناه.. اللهم لا تجعلنا بدعائك أشقياء، وكن بنا رؤوفا رحيما، يا خير المسئولين، ويا خير المعطين.
وصل اللهم على سيدنا محمد، وعلى آله وصبحه وسلم تسليما كثيرا.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة