الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                        معلومات الكتاب

                        إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول

                        الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

                        صفحة جزء
                        قد قدمنا الكلام فيها في مباحث القياس ، وسنذكر هاهنا بعض ما يتعلق بها ، تتميما للفائدة ، ولكونها قد ذكرها جماعة من أهل الأصول في مباحث الاستدلال ; ولهذا سماها بعضهم بالاستدلال المرسل ، وأطلق إمام الحرمين وابن السمعاني عليها اسم الاستدلال .

                        قال الخوارزمي : والمراد بالمصلحة المحافظة على مقصود الشرع ، بدفع المفاسد عن الخلق .

                        قال الغزالي : هي أن يوجد معنى يشعر بالحكم ، مناسب عقلا ، ولا يوجد أصل متفق عليه .

                        وقال ابن برهان : هي ما لا تستند إلى أصل كلي ولا جزئي .

                        وقد اختلفوا في القول بها على مذاهب :

                        ( الأول ) : منع التمسك بها مطلقا وإليه ذهب الجمهور .

                        [ ص: 692 ] ( والثاني ) : الجواز مطلقا ، وهو المحكي عن مالك ، قال الجويني في البرهان : وأفرط في القول بها حتى جره إلى استحلال القتل وأخذ المال لمصالح يقتضيها في غالب الظن ، وإن لم يجد لها مستندا ، وقد حكي القول بها عن الشافعي ، في قوله القديم ، وقد أنكر جماعة من المالكية ما نسب إلى مالك من القول بها ، ومنهم القرطبي وقال : ذهب الشافعي ، ومعظم أصحاب أبي حنيفة إلى عدم الاعتماد عليها ، وهو مذهب مالك ، قال : وقد اجترأ إمام الحرمين الجويني ، وجازف فيما نسبه إلى مالك من الإفراط في هذا الأصل ، وهذا لا يوجد في كتب مالك ولا في شيء من كتب أصحابه .

                        قال ابن دقيق العيد : الذي لا شك فيه أن لمالك ترجيحا على غيره من الفقهاء في هذا النوع ، ويليه أحمد بن حنبل ، ولا يكاد يخلو غيرهما عن اعتباره في الجملة ، ولكن لهذين ترجيح في الاستعمال لها على غيرهما انتهى .

                        قال القرافي : هي عند التحقيق في جميع المذاهب ; لأنهم يقومون ويقعدون بالمناسبة ، ولا يطلبون شاهدا بالاعتبار ، ولا نعني بالمصلحة المرسلة إلا ذلك .

                        ( الثالث ) : إن كانت ملائمة لأصل كلي من أصول الشرع ، أو لأصل جزئي ، جاز بناء الأحكام عليها ، وإلا فلا .

                        حكاه ابن برهان في الوجيز عن الشافعي ، وقال : إنه الحق المختار .

                        قال إمام الحرمين : ذهب الشافعي ومعظم أصحاب أبي حنيفة إلى اعتماد تعليق الأحكام بالمصالح المرسلة ، بشرط ملائمته للمصالح المعتبرة المشهود لها بالأصول .

                        ( الرابع ) : إن كانت تلك المصلحة ضرورية ، قطعية ، كلية ; كانت معتبرة ; فإن فقد أحد هذه الثلاثة لم تعتبر ، والمراد بالضرورية أن تكون من الضروريات الخمس ، وبالكلية أن تعم جميع المسلمين ، لا لو كانت لبعض الناس دون بعض ، أو في حالة مخصوصة دون حالة ، واختار هذا الغزالي والبيضاوي ومثل الغزالي للمصلحة [ ص: 693 ] المستجمعة الشرائط ، بمسألة الترس ، وهي ما إذا تترس الكفار بجماعة من المسلمين ، وإذا رمينا قتلنا مسلما من دون جريمة منه ، ولو تركنا الرمي لسلطنا الكفار على المسلمين ، فيقتلونهم ، ثم يقتلون الأسارى الذين تترسوا بهم ، فحفظ المسلمين لقتل من تترسوا به من المسلمين أقرب إلى مقصود الشرع ; لأنا نقطع أن الشارع يقصد تقليل القتل ، كما يقصد حسمه عند الإمكان ، فحيث لم نقدر على الحسم ، فقد قدرنا على التقليل ، وكان هذا التفاتا إلى مصلحة علم بالضرورة كونها مقصودة للشرع ، لا بدليل واحد ، بل بأدلة خارجة ( عن الحصر ) ، ولكن تحصيل هذا المقصود بهذا الطريق ، وهو قتل من لم يذنب لم يشهد له أصل معين ، فينقدح اعتبار هذه المصلحة بالأوصاف الثلاثة ، وهي كونها ضرورية ، كلية ، قطعية ، فخرج بالكلية فإذا أشرف جماعة في سفينة على الغرق ، ولو غرق بعضهم لنجوا فلا يجوز تغريق البعض ، وبالقطعية ما إذا شككنا في كون الكفار يتسلطون عن عدم رمي الترس ( وبالضرورة ما إذا تترسوا في قلعة بمسلم ; فلا يحل رمي الترس ) إذ لا ضرورة بنا إلى أخذ القلعة .

                        قال القرطبي : هي بهذه القيود لا ينبغي أن يختلف في اعتبارها ، وأما ابن المنير فقال : هو احتكام من قائله ، ثم هو تصويرها بما لا يمكن عادة ، ولا شرعا ، أما عادة فلأن القطع في الحوادث المستقلة لا سبيل إليه إذ هو عبث وعناد ، وأما شرعا فلأن الصادق المعصوم قد أخبرنا بأن الأمة لا يتسلط عدوها عليها ليستأصل شأفتها .

                        قال : وحاصل كلام الغزالي رد الاستدلال بها ; لتضييقه في قبولها باشتراط ما لا يتصور وجوده ، انتهى .

                        قال الزركشي : وهذا تحامل منه ، فإن الفقيه يفرض المسائل النادرة ; لاحتمال وقوعها ، بل المستحيلة لرياضة الأذهان ، ولا حجة له في الحديث ; لأن المراد به [ ص: 694 ] كافة الخلق وتصوير الغزالي إما هو في أهل محلة بخصوصهم ، استولى عليهم الكفار ، لا جميع العالم ، وهذا واضح انتهى .

                        قال ابن دقيق العيد : لست أنكر على من اعتبر أصل المصالح ، لكن الاسترسال فيها ، وتحقيقها محتاج إلى نظر سديد ، وربما يخرج عن الحد ، وقد نقلوا عن عمر - رضي الله عنه - أنه قطع لسان الحطيئة بسبب الهجو ، فإن صح ذلك فهو من باب العزم على المصالح المرسلة ، وحمله على التهديد الرادع للمصلحة أولى من حمله على حقيقة القطع للمصلحة ، وهذا يجر إلى النظر فيما يسمى مصلحة مرسلة .

                        قال : وشاورني بعض القضاة في قطع أنملة شاهد ، والغرض منعه عن الكتابة بسبب قطعها ، وكل هذه منكرات عظيمة الموقع في الدين ، واسترسال قبيح في أذى المسلمين انتهى .

                        التالي السابق


                        الخدمات العلمية