وأما له ، فاختلفوا في ذلك على مذاهب . النافي
( الأول ) : أنه يحتاج إلى إقامة الدليل على النفي .
نقله الأستاذ أبو منصور عن طوائف أهل الحق ، ونقله على أكثر أصحاب ابن القطان ، وجزم به الشافعي القفال والصيرفي .
وقال الماوردي : إنه مذهب ، وجمهور الفقهاء والمتكلمين . الشافعي
[ ص: 701 ] وقال القاضي في التقريب : إنه الصحيح ، وبه قال الجمهور ، قالوا : لأنه مدع ، والبينة على المدعي ، ولقوله تعالى : بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله فذمهم على نفي ما لم يعلموه مبينا ولقوله تعالى : قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين في جواب قوله : لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ولا يخفاك أن الاستدلال بهذه الأدلة واقع في غير موضعه ، فإن النافي غير مدع ، بل قائم مقام المنع ، متمسك بالبراءة الأصلية ، ولا هو مكذب بما لم يحط بعلمه ، بل واقف حتى يأتيه الدليل وتضطره الحجة إلى العمل .
وأما قوله تعالى : قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين فهو نصب للدليل في غير موضعه ، فإنه إنما طلب منهم البرهان ; لادعائهم أنه لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى .
( المذهب الثاني ) : أنه لا يحتاج إلى إقامة دليل ، وإليه ذهب أهل الظاهر ، إلا ، فإنه رجح المذهب الأول . ابن حزم
قالوا : لأن النفي والعدم ، فمن نفى الحكم ، له أن يكتفي بالاستصحاب ، وهذا المذهب قوي جدا . الأصل في الأشياء
فإن النافي عهدته أن يطلب الحجة من المثبت حتى يصير إليها ، ويكفيه في عدم إيجاب الدليل عليه التمسك بالبراءة الأصلية ، فإنه لا ينقل عنها إلا دليل يصلح للنقل .
( المذهب الثالث ) : أنه يحتاج إلى إقامة الدليل في النفي العقلي ، دون الشرعي ، حكاه القاضي في التقريب . وابن فورك
( المذهب الرابع ) : أنه يحتاج إلى إقامة الدليل في غير الضروري ، بخلاف الضروري ، وهذا اختاره ولا وجه له ، فإن الضروري يستغنى بكونه ضروريا ، ولا يخالفه مخالف إلا على جهة الغلط ، أو اعتراض الشبهة ، ويرتفع عنه ذلك ببيان ضروريته : ، وليس النزاع إلا في الضروري . الغزالي
( المذهب الخامس ) : أن النافي إن كان شاكا في نفيه لم يحتج إلى دليل ، وإن كان نافيا له عن معرفة احتاج إلى ذلك إن كانت تلك المعرفة استدلالية ، لا إن كانت ضرورية ، [ ص: 702 ] فلا نزاع في الضروريات . كذا قال في الملخص ولا وجه له ، فإن النافي عن معرفة يكفيه تكليف المثبت بإقامة الدليل ، حتى يعمل به ، أو يرده ; لأنه هو الذي جاء بحكم يدعي أنه واجب عليه ، وعلى خصمه ، وعلى غيرهما . القاضي عبد الوهاب
( المذهب السادس ) : أن النافي إن نفى العلم عن نفسه فقال : لا أعلم ثبوت هذا الحكم ، فلا يلزمه الدليل ، وإن نفاه مطلقا احتاج إلى الدليل ; لأن نفي الحكم حكم ، كما أن الإثبات حكم .
قال ابن برهان في الأوسط : وهذا التفصيل هو الحق انتهى .
( قلت ) : بل الحق هو ما قدمناه .
( المذهب السابع ) : أنه إن ادعى لنفسه علما بالنفي احتاج إلى الدليل ، وإلا فلا .
هكذا ذكر هذا المذهب بعض أهل الجدل ، واختاره المطرزي ، وهو قريب من المذهب الخامس .
( المذهب الثامن ) : أنه إذا قال لم أجد فيه دليلا بعد الفحص عنه ، وكان من أهل الاجتهاد لم يحتج إلى دليل ، وإلا احتاج ، هكذا قال . ابن فورك
( المذهب التاسع ) : أنه حجة دافعة لا موجبة ، حكاه أبو زيد .
ولا وجه له ، فإن النفي ليس بحجة موجبة على جميع الأقوال ، وإنما النزاع في كونه يحتاج إلى الاستدلال على النفي ، فيطالب به مطالبة مقبولة في المناظرة أم لا .
واختلفوا إذا قال العالم : بحثت وفحصت ، فلم أجد دليلا ، هل يقبل منه ذلك ، ويكون عدم الوجدان دليلا له ، فقال البيضاوي : يقبل ; لأنه يغلب ظن عدمه .
وقال ابن برهان في الأوسط : إن صدر هذا عن المجتهد في باب الاجتهاد والفتوى قبل منه ، ولا يقبل منه في المناظرة ; لأن قوله بحثت فلم أظفر يصلح أن يكون عذرا ، فيما بينه وبين الله ، أما انتهاضه في حق خصمه فلا .