الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          معلومات الكتاب

          الإحكام في أصول الأحكام

          الآمدي - علي بن محمد الآمدي

          [ ص: 99 ] المسألة الخامسة

          إذا قال الصحابي : كنا نفعل كذا ، وكانوا يفعلون كذا ، وذلك كقول عائشة : " كانوا لا يقطعون في الشيء التافه " .

          وكقول إبراهيم النخعي [1] كانوا يحذفون التكبير حذفا ، فهو عند الأكثرين محمول على فعل الجماعة دون بعضهم ، خلافا لبعض الأصوليين .

          ويدل على مذهب الأكثرين أن الظاهر من الصحابي أنه إنما أورد ذلك في معرض الاحتجاج ، وإنما يكون ذلك حجة إن لو كان ما نقله مستندا إلى فعل الجميع ؛ لأن فعل البعض لا يكون حجة على البعض الآخر ، ولا على غيرهم .

          فإن قيل : لو كان ذلك مستندا إلى فعل الجميع لكان إجماعا ، ولما ساغ مخالفته بطريق الاجتهاد فيه ، وحيث سوغتم ذلك دل على عوده إلى البعض دون الكل .

          قلنا : تسويغ الاجتهاد فيه إنما كان لأن إضافة ذلك إلى الجميع وقع ظنا لا قطعا ، وذلك كما يسوغ الاجتهاد فيما يرويه الواحد من الألفاظ القاطعة في الدلالة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما كان طريق اتباعه ظنيا ، وإن كان لا يسوغ فيه الاجتهاد عندما إذا ثبت بطريق قاطع .

          وأما إن كان الراوي غير صحابي ، فمستنده في الرواية إما قراءة الشيخ ، لما يرويه عنه ، أو القراءة على الشيخ أو إجازة الشيخ له ، أو أن يكتب له كتابا بما يرويه عنه ، أو يناوله الكتاب الذي يرويه عنه ، أو أن يرى خطا يظنه خط الشيخ بأني سمعت عن فلان كذا .

          فإن كان مستنده في الرواية قراءة الشيخ ، فإما أن يكون الشيخ قد قصد إسماعه بالقراءة أو لم يقصد إسماعه بطريق من الطرق : فإن قصد إسماعه بالقراءة أو مع غيره ، فهذا هو أعلى الرتب في الرواية ، وللراوي عنه [ ص: 100 ] أن يقول : حدثنا وأخبرنا ، وقال فلان ، وسمعته يقول كذا ، وإن لم يقصد إسماعه فليس له أن يقول حدثنا وأخبرنا ؛ لأنه يكون كاذبا في ذلك ، بل له أن يقول : قال فلان كذا وسمعته يقول كذا ، ويحدث بكذا ، ويخبر بكذا .

          وأما القراءة على الشيخ مع سكوت الشيخ من غير ما يوجب السكوت عن الإنكار ، من إكراه أو غفلة أو غير ذلك ، فقد اتفقوا على وجوب العمل به ، خلافا لبعض أهل الظاهر ؛ لأنه لو لم تكن روايته صحيحة لكان سكوته عن الإنكار مع القدرة عليه فسقا ، لما فيه من إيهام صحة ما ليس بصحيح ، وذلك بعيد عن العدل المتدين .

          ثم اتفق القائلون بالصحة على تسليط الراوي على قوله : أخبرنا وحدثنا فلان قراءة عليه .

          واختلفوا في جواز قوله : حدثنا وأخبرنا مطلقا ، والأظهر امتناعه ; لأن ذلك يشعر بنطق الشيخ ، وذلك من غير نطق منه كذب .

          وأما إجازة الشيخ ، وذلك بأن يقول : أجزت لك أن تروي عني الكتاب الفلاني ، أو ما صح عندك من مسموعاتي ، فقد اختلفوا في جواز الرواية بالإجازة : فجوزه أصحاب الشافعي ، وأحمد بن حنبل ، وأكثر المحدثين ، واتفق هؤلاء على تسليط الراوي على قوله : أجازني فلان كذا وحدثني وأخبرني إجازة ، واختلفوا في قوله حدثني وأخبرني مطلقا .

          والذي عليه الأكثر ، وهو الأظهر ، أنه لا يجوز لأن ذلك يشعر بنطق الشيخ بذلك وهو كذب .

          وقال أبو حنيفة وأبو يوسف : لا تجوز الرواية بالإجازة مطلقا .

          وقال أبو بكر الرازي [2] من أصحاب أبي حنيفة ، إنه إن كان المجيز والمجاز له قد علما ما في الكتاب الذي أجاز روايته ، جازت روايته بقوله : أخبرني وحدثني .

          [ ص: 101 ] وذلك كما لو كتب إنسان صكا ، والشهود يرونه ثم قال لهم : اشهدوا علي بجميع ما في هذا الصك ، فإنه يجوز لهم إقامة الشهادة عليه بما في ذلك الكتاب ، وإلا فلا .

          والمختار إنما هو جواز الرواية بالإجازة ، وذلك لأن المجيز عدل ثقة ، والظاهر أنه لم يجز إلا ما علم صحته ، وإلا كان بإجازته رواية ما لم يروه فاسقا ، وهو بعيد عن العدل .

          وإذا علمت الرواية أو ظنت بإجازته ، جازت الرواية عنه كما لو كان هو القارئ أو قرئ عليه وهو ساكت .

          فإن قيل : إنه لم يوجد من المحدث فعل الحديث ، ولا ما يجري مجرى فعله ، فلم يجز أن يقول الراوي عنه : أخبرني ، ولا حدثني لأنه يكون كذبا ، ولأنه قادر على أن يحدث به ، فحيث لم يحدث به دل على أنه غير صحيح عنده .

          قلنا : هذا باطل بما إذا كان الراوي عن الشيخ هو القارئ ، فإنه لم يوجد من الشيخ فعل الحديث ، ولا ما يجري مجراه وهو قادر على القراءة بنفسه ، ومع ذلك ، فإنه يجوز للراوي أن يقول : أخبرني وحدثني حيث كانت قراءته عليه مع السكوت دليل صحة الحديث .

          وعلى ما ذكرناه من الخلاف في الإجازة والمزيف والمختار يكون الكلام فيما إذا ناوله كتابا فيه حديث سمعه ، وقال له : قد أجزت لك أن تروي عني ما فيه ، وله أن يقول : ناولني فلان كذا ، وأخبرني ، وحدثني مناولة .

          وكذلك الحكم أيضا إذا كتب إليه بحديث ، وقال : أجزت لك روايته عني فإنه يدل على صحته ، ويسلط الراوي على أن يقول : كاتبني بكذا وحدثني أو أخبرني بكذا كتابة .

          ولو اقتصر على المناولة أو الكتابة دون لفظ الإجازة ، لم تجز له الرواية ، إذ ليس في الكتابة والمناولة ما يدل على تسويغ الرواية عنه ولا على صحة الحديث في نفسه .

          أما رؤية خط الشيخ بأني سمعت من فلان كذا ، فلا يجوز مع ذلك الرواية عنه ، وسواء قال : هذا خطي ، أو لم يقل ؛ لأنه قد يكتب ما سمعه ، ثم يشكك فيه ، فلا بد من التسليط من قبل الشيخ على الرواية عنه بطريقة ، إذ ليس لأحد رواية ما شك في روايته ، إجماعا ، وعلى هذا ، فلو روى كتابا عن بعض المحدثين ، وشك في حديث واحد منه [ ص: 102 ] غير معين ، لم تجز له روايته [3] شيء منه ، لأنه ما من واحد من تلك الأحاديث إلا ويجوز أن يكون هو المشكوك فيه .

          وكذلك لو روى عن جماعة حديثا ، وشك في روايته عن بعضهم من غير تعيين ، فليس له الرواية عن واحد منهم ، لأنه ما من واحد إلا ويجوز أن يكون هو المشكوك في الرواية عنه ، والرواية مع الشك ممتنعة .

          نعم ، لو غلب على ظنه رواية الحديث عن بعض المشايخ وسماعه منه ، فهذا مما اختلف فيه .

          فقال أبو حنيفة : لا تجوز روايته ولا العمل به ، لأنه حكم على المروي عنه بأنه حدثه به ، فلا يجوز مع عدم العلم ، كما في الشهادة .

          وقال الشافعي وأبو يوسف ومحمد بن الحسن : تجوز له الرواية والعمل به ؛ لأن ذلك مما يغلب على الظن صحته .

          ولهذا فإن آحاد أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا يحملون كتب الرسول إلى أطراف البلاد في أمور الصدقات وغيرها ، وكان يجب على كل أحد الأخذ بها بإخبار حاملها أنها من كتب الرسول ، وإن لم يكن ما فيها مما سمعه الحامل ، ولا المحمول إليه لكونها مغلبة على الظن .

          ولا كذلك في الشهادة ; لأنه قد اعتبر فيها من الاحتياط ما لم يعتبر مثله في الرواية ، كما ذكرناه فيما تقدم .

          وعلى هذا ، فلو قال عدل من عدول المحدثين عن كتاب من كتب الحديث ، إنه صحيح ، فالحكم في جواز الأخذ به والخلاف فيه ، كما سبق فيما إذا ظن أنه يرويه ، مع الاتفاق على أنه لا تجوز روايته عنه بخلاف ما إذا ظن الرواية عنه .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية